أكاد أن أجزم أن أغرب
لحظات حياتي على الإطلاق هي عندما أفيق من نومي في الصباح، فبعيداًَ عن حالة
الألزهايمر المؤقتة –وإن طالَت- التي تصيبني، كثيراً ما
أتخيل أُناساً ماتوا وشبعوا موتاً يوقظونني من نومي، فمَن أيقظني بالأمس مثلاً كان
المغني الأمريكي "لويس أرمسترونج" –الله يرحمه- وهو ممسك بآلة الساكسفون
خاصته.
والأمر لا يتوقف عند هذا
الحد فحَسب، أحياناً تخطر على بالي بعض الأفكار الطائشة المتهورة، فأنا أتذكر
حينما كنت مُصِرَّاً على أن أربط بشكير الحمَّام الأحمر على رقبتي وأخرج للبالكونة
كَي أطير مثل "سوبر مان"، كذلك لا يمكنني أن أنسى أفكاراً مجنونة أُخرى
كالسابقة أتتني، منها مثلاً: أن أُشاهد حلقة كاملة للإعلامي وائل الإبراشي.. أو
خطاباً للسيد الرئيس.
واليوم، عَنَّ بفكري سؤال
في الصباح "ماذا لو انشقت الأرض وابتلعت إحدى الدول، ولتَكُن
البرازيل؟"، وكانت إجابتي سريعة جداً، سوف نفقد أعظم مهارات كُرة القدم، كما
سوف نفتقد أفضل بُن وكاكاو في العالَم، وكما نعلم أن الحياة لن تستوي من دونهما. أما
إذا حدث الأمر ذاته لهولندا مثلاً، فسوف نفتقد بالطبع زهرة التيوليب التي تُعتَبَر
هولندا المُنتج الرئيسي لها "تنتج حوالي 3 مليون سنوياً
أغلبها للتصدير".
لو حصل الأمر لروسيا بقى،
فبعيداً عن فقداننا لبناتها اللواتي يحتكرن جزءً معتبراً من مخزون الجمال في
العالم، سوف نفتقد بالطبع فنون الباليه وفرقة "البولشوي".
أما عن إثيوبيا التي تقع
في أراضيها منابع نهر النيل وتعاملها حكوماتنا منذ عشرات السنين معاملة فَوقية تُشبه
تماماً معاملة "مرات الأب"، فإن العالَم سوف يفقد أفضل عَدَّائين فيه –كذلك
الحال بالنسبة لكينيا-، كما سوف نخسر دولة (أطلقت) قمراً صناعياً للفضاء العام
الماضي بغرض البحث العلمي، في حين أن أقصى أمل وحلم لدينا الآن أن (تطلق) السُلطة
سراح سُجناء الرأي !
طَيَّب..
واجب عليَّ كمصري أن
أسأل.. ماذا لو "انشقت الأرض وبلعتنا" ؟ تُرى، هل سوف يفتقد العالم
شيئاً ؟ بعيداً عن وارداتنا التي تُعَد "أكثر من الهَم ع القلب" التي
سوف ترجع لبلادها، وبعيداً عن أن ثمة أموال سوف ترجع إلى أصحابها مرة أُخرى "المعونات"،
كما ستعود معها أسلحة جيشنا، المشكور والله على أنه يسخر جهوده في بناء الطُرق
والكباري.. في نفس الوقت الذي نستورد فيه أسلحتنا من صُنَّاع يمولوننا ويمولون
الخصم بالذخيرة في آن واحد !
إذا اختفينا من هذا
العالم، هل سوف يفقد الكون شيئاً سوى ذلك العدد الذي سوف يُخصم من التعداد العالمي
للسكان ؟؟ والله أعلم كم واحد من هذا العدد كان مُقدر له أن يكون له شأن إذا وجد
من يرعاه في بلده. فالعلماء المصريين الذين نفتخر بهم جميعاً، مثل الدكتور عصام
حجي، لفظته بلاده وخَوَّنته واتهمته بالعمالة والجهل حين سعى لنهضتها، وكان
"الخارج" قد فتح له ذراعيه كي يتبنى علمه وموهبته، أما لو كان هذا العالِم
بقى في بلاده، الله أعلم إن كان حينها سوف يجد تعييناً في الحكومة أم لا، وإذا حصل
على تعيين باعتباره "مستر عصام - مُدرس العلوم" فبالطبع لن يكون مؤهلاً
حينها وسيكون معدوم الكفاءة والخبرة لأنه لم يحصل على تعليم محترم حاله حال باقي
المُدرسين، وبالتالي سوف تكون النتيجة الطبيعية أن يصنع تجربة فاشلة للأولاد تنفجر
في وجهه ووجوههم أيضاً، فيجري التلاميذ ويهتف أحدهم له: “الله عليك يا أُستاذ”.
من المؤكد أن الجميع
يلاحظ وصلات "الردح" القائمة باستمرار بين الخصوم السياسيين في بلادنا
المحروسة كما تشارك فيها السُلطة أيضاً، والتي ينعت فيها كُل واحد الآخر بأنه صاحب
أجندة أجنبية وتابع للخارج..
في نفس الوقت الذي وصلت
العولمة إلى ذروتها –تقريباً- وتتحدث الدنيا كُلها على أن العالم أصبح
"أوضتين وصالة، ولا شك أننا نقبع في الحمام طبعاً"، يدور هذا كُله عندنا،
ويعتقد الناس أن "الخواجة" -الذي نعيش على فُتات سيادته الذي يرميه لنا-
أصم ولا يقرأ ولا يكتب ولا يرى -ومابيعملش بي بي لوحده كمان-، ولا يلحظ الفارق
الرهيب بين الخطاب في الداخل الذي يصوِّره على أنه شيطان أَشِر يُكرِّس كُل وقته
لإسقاط هذا البلد بالذات لتنفير الناس من كُل ساخط على السُلطة بتصوير أنه تابع
للأجانب، وبين الخطاب في الخارج -معه- المفعم بالحب والمودة "إديني معونة وأباتشي
ربنا يكفيك شر المرض ويوقفلك ولاد الحلال".
الحقيقة إن هذا الشيطان
-الخواجة- لا يحتاج أن يُكرس وقته كله لمحاربة دولة تابعة له –فعلياً- دون أن يطلب
منها ذلك، دولة تحارب إخوانها الفلسطينيين وتفرض عليهم حصاراً تماماً كالذي يفرضه
عليهم الصهاينة، وتزرع كراهية إخواننا في نفوس شعبها حتى صارت كلمة "فلسطين" سُبَّة في
بلادنا. –وياللعار-.
إن الخواجة لا يحتاج لأن
يحارب دولة تعتقد أن أطفالها هم أذكى أطفال العالم، كأن كُل أطفال العالم قد
خُلِقوا من طين وأطفالنا مخلوقون من (مارون جلاسيه)، وإذا سلمنا بأن النظرية
صحيحة، فإن هذا يعيبنا ولا يُحسن إلينا، لأننا إذا شاهدنا المُنتج النهائي من أذكى
أطفال الكوكب المتمثل في "الرجال الكبار"، سوف نتأكد أن ثمة انتهاك بشع
قد حدث لعقولهم في مراحل نموهم نتج عنه هذه التشوهات. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن الخواجة لا يحتاج أن
يحارب دولة تؤمن بأنها "أُم الدنيا" بعدما أصبحت دولة نامية من دول
العالم التالت "أو الثالث عشر"، في مشهد مشابه جداً بالثّمِل الذي يردد
"أنا جدع.. أنا جدع" وينتهي المشهد بأن يشبعه أحد الحاضرين ضرباً
"لغاية أمَّا يقول يا كِفى".
دولة تنعت سُلطتها خصومها
بالعمالة للخارج، في نفس الأيام التي يُثبت فيها تقرير مجلس الشيوخ الأمريكي أن
نفس البلد ونفس السُلطة –وإن اختلف توزيع المراكز والأدوار- كانت تتعاون مع
المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) في تعذيب معتقليها على أراضيها "الأراضي
المصرية".
إن "الخواجة"
لا يحتاج أن يشغل وقته بأن يُفكر –أصلاً- في دولة لا تنتج غذاءها ولا سلاحها، بل
تستوردهما وتطلبهما منه. دولة تقتل أبناءها يومياً في الشوارع بدم بارد، ومن لم تصبه
رصاصة البندقية.. يُلقى في السجن، ومن يفلت من الزنزانة.. يُقتل معنوياً –وهذا
أضعف الإيمان-، ويكون هذا أكثرهم حظاً.
هُنا، يُلح عليَّ سؤال، هل
يحتاج "الخواجة" شيئاً بعد ذلك كله كي يُحكِم السيطرة سوى ما يُرسله لنا
دورياً من شُحنات رصاص حَي وغاز مُسيل للدموع ؟؟
---
فَكَّرت كثيراً فيما سوف تفتقده
الإنسانية إذا خسف الله بنا الأرض، فلم أرَ أمام عينيَّ سوى "أُم أميرة"
التي تخرج كُل يوم إلى شوارع "وسط البلد" قبل أن تخرج لنا الشمس من
مخبأها، وتقف تلك السيدة بطولها على عربتها التي تجلب لها الرزق من خلال قَلي
البطاطس عليها وبيعها، حتى توفر لابنتها مريضة القلب ثمن العلاج، وتوفر ما يسترهما
أيضاً، إلى أن ماتت "أميرة" لتلحق بأبيها المُقعد.. ولازالت أُمها تعمل
بحثاً عن الستر.
أملي كبير في أن تشفع لنا
"أُم أميرة" المهدور حقها عند المولى حتى لا يخسف بنا الأرض التي تقف –هي-
عليها، أمَّا في حال إذا كان هلاكنا أمراً لا مَفَر منه.. أدعو الله ألا يخسف
الأرض بالأمتار التي تقف عليها "كُل أُم أميرة" على أقل تقدير.
"سألت الشيخ
عبد ربه: كيف تنتهي المِحنة التي نعانيها؟
فأجاب: إن خرجنا
سالمين فهي الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل". نجيب محفوظ – من: أصداء السيرة
الذاتية.
علي هشام