الجمعة، 25 أغسطس 2023

مثلك يا حجر

أُحِب الأشياء القديمة، أحترمها وأُقدرها وأنحني إجلالًا لها. رائحة بيت جدتي بالإسكندرية، خليط من رائحة الباركيه والموكيت وعطرها الذي تستخدمه يوميًا، وروائح أُخرى حاولت مرارًا أن أميزها ولم أنجح. كل ما أعرفه أن جدتي رحلت، ولم ترحل رائحتها.
 
ورثت عن أبي مكتبة مُمتلئة عن آخرها بكتبٍ قديمة اصفرت أوراقها، ألجأ إليها كلما حزنت، لذا ألجأ إليها كثيرًا. دأب أبي في تكوين مكتبته، وقضى أيامًا في فهرستها وكتابة العناوين وأسماء المؤلفين بخطه الجميل على كعب كل كتاب ليسهل علينا التمييز والاختيار. ورثت عن أبي إدمان اقتناء الكتب، والذي ليس له علاقة بشغفي بالقراءة، هذا شيء وذلك شيء آخر. أقتني الكتب لأضمن لنفسي رفقاء دائمين لن يتركوني مهما طال الزمان. كنزٌ أورثه لأولادي وأحفادي يحمي عقولهم من الصدأ. أوراق تصفر بمرور الزمن، وتزداد رائحتها حلاوة.
 
اعتدت أن أحترم الكبير، ليس لإنجازٍ شخصي له، ولكن كقاعدة عامة واجبة التنفيذ ما استطعت إليها سبيلا، ومادام الكبير يحترم نفسه. لم يكن له دورًا في مجيئه للدنيا في تاريخ مُعين، ولم يَكُن لي يَد في أن آتي بعده. كل ما في الأمر أنه قضى وقتًا أطول مني في هذه الدنيا، وهو في ذاته أمر يستحق الشفقة والطبطبة وتطييب الخاطر.
 
أقف مشدوهًا فاتحًا فاهي عن آخره منبهرًا أمام الآثار والمعابد ودور العبادة القديمة. أكَم من أحداث تشيب لها الرؤوس مرت على هذا العالم ومازالوا محافظين على هيئتهم؟ فقد أبو الهول أنفه ومازال حيًا بالجيزة في ظاهرة خارقة للطبيعة، دلالتها أنك بقائك حيًا في مصر شريطة فقدانك مناخيرك من كثرة الشخر. صمدت أهرامات الجيزة ولم تهتز بتوالي الأنظمة والحكومات والظروف بشكل عام، لم يجرؤ أحد على هدمها.. حتى الآن. 
 
تحمل حجر رشيد غُربة في بريطانيا منذ ١٨٠١ ولم يطلب من إدارة المتحف البريطاني أجازة واحدة لمصر. صحيح أنه لم يرسل أي حوالات لمصر بالعملة الصعبة لدعم الاقتصاد، لكن لا عَجَب. حافظ الحجر على مصريته ولم يأخذ الجنسية البريطانية، ظل ماكثًا بالقسم المصري حاملًا اسم البلد التي لم تصونه وتحافظ عليه. اكتشف الضابط المهندس الفرنسي فرنسواه بوشار حجر رشيد في ١٧٩٩، فك رموزه شامبليون ١٨٢٢، ثم رقد رشيد في مثواه الأخير بالمتحف البريطاني حيث يطوف الناس حوله منبهرين من كل جانب. أما نحن فاكتفينا بدور عاطف في فيلم الناظر: شكرًا. هاجر حجر رشيد من بلده التي لم تفهم طلاسمه، وارتمى في أحضان الأوربيون الذين فكوا رموزه.
 
دخلت القسم المصري بالمتحف البريطاني، وابتسمت في فخرٍ من حفاوة الزائرين بآثار بلدي. وقفت أمام حجر رشيد، نظرت إليه، غلبتني رغبة عارمة في البكاء، فاستأذنت من عيني دمعة في الانصراف، فتركتها. نظرت لرشيد وأخبرته بأني مثله لم تفهمني مصر.. ولم أفهمها.. ولكني أُحبها.. تمامًا مثلك يا حجر.. تمامًا مثلك يا حجر.
 
أعترف بأن مصر عَصيَّة على فهمي. بلدٌ شديدة الجمال والقُبح في آنٍ واحد. شعبٌ ليس له كتالوج، تارة يجعلني فخورًا وتارتين يجعل مفقوعًا. قرأت في أنظمة السياسة والاقتصاد، ولم أقتنع لمصر بتصنيفٍ واحد على مر التاريخ. بلد غلطة الكمبيوتر، وتعاشب شاي، ومع احترامي لحضرتك، وبدون قطع كلامك. بلد الفنانين والشعراء والكتاب والعباقرة والضلالية والمفتريين والأمين أشرف والبصمجية الذين لا يفرقون الألِف من كوز الذرة. بلد لم تفهمني، ولم أفهمها، ولكننا قررنا ألا ننفصل عشان الأولاد. بلد إذا أردت أن تنفصل عنها، لن تنفصل عنك ولو أخذت ١٠٠ جنسية أُخرى. مصر وحمة، طالعالنا كلنا، ومش هاتروح، ولو روحنا لأشطر دكتور تجميل عشان يشيلها، هتسيب علامة. 

لم أفهم مصر، ولم تفهمني. صُنتها، ولم تصنِّي تمامًا كما لم تَصُن الحجر. أنا مثلك يا حجر.



الاثنين، 31 يوليو 2023

بين هذا وذاك

 يطلع موظف السفارة على رقمي القومي وباقي المستندات، يتنهد بنفاد صبر ثم يدفس يده في مظروف يحوي مجموعة جوازات، يلتقط باسبوري ويمنحني إياه بابتسامة باردة كغرفة بلا سقف فوق السطوح في يناير يسكنها أسرة بسيطة ربها يعمل ثلاث شغلانات. ابتسامة حارة كعناق الأم بعد سفر طويل. ابتسامة مؤسفة كحال المشردين وأطفال الشوارع، حالمة كحلم أحدهم بأن يصبح طبيبًا ليعالج المُحتاجين ويزوج إخوته البنات اللواتي في رقبته. ابتسامة تربت على كتفي وتتمنى الخير، ثم سرعان ما تُعاتب وتغبطني. ابتسامة روتينية مُعتادة صارت جزءًا من وظيفته التي يمنح بمقتضاها عشرات التأشيرات يوميًا للبشر الفَرحين بما أتاهم الله من فضله، تمامًا كطبيب النساء والتوليد وهو يخبر الأزواج بالسر المُفرح وراء انقطاع الدورة الشهرية، "المدام حامل"، لينتظرا حُكم بالمؤبد قادمٌ لا محالة بعد بضعة أشهر، ويدخلا منذ حينها في الدورة الأكبر الذي لن يفيق أحدهما منها إلا وهو في طابور المعاشات، يسأل: هو الوقت ده كله فات امتى؟ يفيق منها وحيدًا، فلم تُمهل الحياة شريكه أن يُكمل الرحلة معه، لم تُمهله أن يصل إلى الستين ويتقاعد، مات وتُراب الشارع على قدميه، مات قبل المعاش.
ابتسامة مُملة كزواج مستمر عشان الأولاد، مُعاتبة كعتاب الأحباب، كارهة ككره سيدنا الحسين للظلم، مُتسامحة كنظرته الأخيرة إلى السماء قبل أن تصعد روحه إلى السماء في كربلاء، راضية كرضا الإمام الحسين عن نفسه حينما انتصر للحق وإن قبحت العواقب. ابتسامة مُضطربة رغم اعتيادها وتكرارها، تزداد اضطرابًا وريبة كلما ابتسمها قرابة نهاية الشهر واقتراب موعد سداد إيجار البيت، وتقل حدتها بعد نزول المرتب في أول كل الشهر. ابتسامة مُتفهمة لخصوصية اللحظة وما تعنيه لشاب مصري يترك أهله ويسافر للدراسة. ابتسامة سريعة ومُتعجلة لأن الطابور طويل والناس منتظرون بالخارج في عز الحر. ابتسامة ملؤها الفَخر كأنما قد منحني التأشيرة هو بنفسه بعد أن انتزعها لي من فم ملكة بريطانيا انتزاعًا. ابتسامة حلوة كالشاي الزيادة الذي يشربه عاملو النقاشة في استراحتهم. ابتسامة مُرة كقهوة سادة وُضعت أمامك في سرادق العزاء. 
ابتسم، وقال: مبروك.
ابتسمت بدوري. أدرت وجهي، واستحال الجو شديد الحرارة صقيعًا كالرصاص قطع عني الإحساس بأطرافي، ثم ينفجر بداخلي بُركانًا يذيب الثلج الذي هطل عليَّ من السماء. منذ يومها لم تستقر درجات الحرارة بداخلي، وصرت بين راحتي يدي الدنيا تقلبني كما شاءت، بين الضحك والبكاء، بين الأمل والخيبة، بين الإصرار وفقدان الأمل، بين الإحساس بالعقل والتفكير بالقلب.
تلهو بي الدنيا بين هذا وذاك، تتلقفني يد وتقذفني لأخرى على النقيض، ويستمر الحال حتى أسقط من كل الأيادي، وأسكن. 
إلى حينها.. أَحلُم.

الأربعاء، 25 يناير 2023

حديث الأمل والخيبة

٢٥ يناير ٢٠٢٣

أنا فخورٌ اليوم. فخورٌ بنفسي، وبكل من هم مثلي.

تعالَ أنت وعقلك هُنا لحظة، تعالَ ولا تذهب بعيدًا، الموضوع وما فيه يا صديقي العزيز هو أني فخورٌ بنفسي فقط لأني صحوت مبكرًا في موعدي وانتزعت جسدي انتزاعًا من السرير الذي يثبتني فيه الاكتئاب يوميًا بمسامير. أنا أيضًا حضرت وجبة فطور صحية، بل أكلتها، وأعددت قهوة لنفسي، وشربتها أيضًا. أزيدك من الشعر بيتًا؟ تمكنت من الخروج اليوم من البيت وها أنا أكتب لك الآن من خارج المنزل. 

قُل لي بالله عليك، لمَ أفخر بشيء آخر أو أحزن على شيء أعَم؟ يعني، ومع احترامي لي ولك، لو لم نشارك وقتها هل كان سيفتقدنا أحد؟ كانوا أطلقوا عليها مليونية إلا فلانًا مثلًا؟ طب هل غيرنا شيئًا في مسار الأمور ومسئولين عما آلت إليه؟ لست نادمًا على شيء، ولا فخورًا بشيء، أنا فقط أدركت حجمي الحقيقي. أنا جسدٌ يحوي أعضاءً بعضها يعمل بكفاءة والبعض الآخر لا. أنا قلب أنهك صاحبه ولم يغير العالم، سيتوقف عن العمل عاجلًا أم آجلًا لو وجه القناص عليَّ رصاصة أو لما يأذن الله تعالى بكل بساطة. 

الإيمان بالقدرة الفردية على التغيير على حلاوته لكن مثير للشفقة، والإيمان المُطلق بالقدرة الجماعية على التغيير أيضًا محل جدال. الكثرة لا تغلب الشجاعة لنكن واضحين، بل الجُبن غالبًا ما يغلب الكثرة الشجاعة. هل هناك أشجع من الفلسطينيين الذين يواجهون الاحتلال والموت بصدور عارية؟ وهل هناك أخَس وأجبن من الجُندي المُحتل الذي يدكهم دكًا بضغطة زر مختبئًا في طائرته أو مدفعه المُصَفَّح؟

المُعادَلَة ضبابية وغير واضحة، والأكيد أن أطرافها ليسوا الكثرة والشجاعة فحسب، بل لست متأكدًا إن كانا من أطرافها أصلًا. 

هل نحن مؤثرين في شيء حتى على الصعيد الشخصي؟ طبعًا الحديث عما إذا كان الإنسان مُسيَّرًا أم مُخَيَّرًا لا ينتهي، لكن لو كنا مخيرين فسوف أعلن اختياري واضحًا وصريحًا لنفسي وللعالم، سوف أخلي مسؤوليتي من كل هذا العبث. اخترت أن يصبح العالم مكانًا أجمل بلا كراهية ولا ظلم، بلا فقر ولا جوع، بلا كراهية ولا إقصاء، بلا خوف ولا فزع. اخترت عالمًا لا يعاقب الحالم على حلمه، ولا الفقير على فقره، ولا المريض على مرضه. اخترت عالمًا أكثر رفقًا بالضعفاء وأصحاب الحظ العسر. أما لو كنت مِسيِّرًا، وهو الأقرب، فقد تركت نفسي للأيام تفعل بي ما تشاء، لكني لن أتوقف عن محاولة القيام في الصباح من السرير، وتحضير فطور صحي، وشرب القهوة لعلي أهزم الاكتئاب يومًا ما مُسيرًا كنت أو مخيرًا.