اصطفتني من بين الآلاف المتظاهرين أمام مبنى البي بي سي بقلب لندن. طفلة جميلة في عقدها الأول، قمحية البشرة تميل إلى البياض قليلًا، شعرها مصفوف يتدلى في ضفيرتين منتظمتين، على وجنتيها نمش بسيط كأنما كانت الرتوش الأخيرة التي لمسها الفنان قبل أن يضع ريشته منتهيًا من اللوحة. رأيتها تسير نحوي، واستغربت في بادء الأمر أنها وحيدة في هذا الزحام، لكن وجهها المطمئن وشى بالخير.أمسكت بطرف بقميصي وكأنما تشدني ناحيتها لأسفل، انحنيت واقتربت بإذني نحو فاهها، فقالت لي إنها تائهة، أتت إلى المظاهرة مع أبيها وأمها وأخيها الأكبر في الصباح ثم اختفوا عنها. صُدمت، وشعرت بالبرد يتسلل إلى أطرافي من هَول المسؤولية التي أصابتني من حيث لا أدري دونًا عن هؤلاء الآلاف. سارعت بطمأنتها وقلت لها ألا تخاف، سوف أساعدها أن تصل لهم ولن أتركها، سوف نعثر عليهم، فقالت لي: بخافش يا عمو بس ساعدني الاقيهم.حملت الصغيرة على يدي، وضممت ذراعي الملفوف على ساقيها لئلا تسقط، أو تتوه مني، ضممتها إلى صدري حتى صرنا واحدًا. قلت في أذنها، سأسير بين الناس وإذا رأيتي أحدًا تعرفيه أوقفيني، فهزت رأسها موافقة.سرت كثيرًا حاملًا إياها، مسحت الصفوف من آخر المظاهرة لأولها، ولم توقفني. لم أعد أسمع الهتافات، أصبح تركيزي كله منصبًا على الصغيرة التي اختارتني لتلقي عليَّ مسؤولية ثقيلة لم أخترها، ولم أستعد لها. ورغم هذه المسؤولية الثقيلة، كانت صديقتي خفيفة، ولم أشعر بشيء ثقيل أحمله على ذراعي، كانت خفيفة كريشة، كنسمة، كإنني لا أحمل شيئًا.كلما انتبهت لها، وجدتها تلعب في ياقة معطفي، أسألها إن كانت منتبهة ومازالت تتفقد الوشوش، فتومئ إيجابًا كأنها تطمئنني بثقة. ساعة، ساعة نسير سويًا، وبعد ساعتين بدأ يصيبني اليأس، ما الحل؟ ماذا لو لم أجدهم حتى نهاية اليوم؟ أأذهب بها للشرطة؟ أتخلى عن صديقتي التي لجأت إليَّ وأتسبب في جرح غائر يلازمها ويلازمني ما حيينا؟ أتخلى عنها كما تخلى العالم كله عنها؟ أم أصطحبها معي المنزل؟ هل هذا قانوني؟ وجع قلب.. وجع قلب خالص لا أقوى عليه.هي فلسطينية، وأهلها فلسطينيون، كأنما كُتب على ذلك الشعب الفراق والشقاء حتى ولو في آخر الدنيا. كأنما كُتب عليهم الصبر والبطولة كما صديقتي الصغيرة الوديعة صابرة على بلاء فقدانها أهلها هذا الصباح.كانت طائرة مروحية تجول فوق المظاهرة، ربما تلتقط صورًا، أو تفحص الشوارع لتعرف السلطات عدد المتظاهرين. رفعت صغيرتي رأسها لأعلى، فأشرت لها على المروحية، بصي بصي الطيارة فوق حلوة ازاي؟ فابتسمت، وسألتني في حذر: هاي ما بتقصف يا عمو؟تجمدت، ولم أرد. فكأنما أرادت صغيرتي أن تطمئنني هي، فقالت لي شكلها جميل يا عمو، "خَيي عندو طيارة متلها". أبهرتني، كيف لصغيرة في موقف كهذا بأن تقطف لي أملًا من زرعة الصبار؟أكملت السير حاملًا صغيرتي. كلما خفت، طمأنتني. كلما تُهت، أرشدتني. كانت تنقل يدها بين معطفي وشعري، تمشي بيدها على شعري كأنما تذكرها بشيء ما، وجدتها تبتسم، فأخبرتني بأني أشبه أباها.ابتسمت، وخفت، ولم أطمأن إلا حينما مررت يدها مرة أخرى على شعري، ولمحت ابتسامتها، طمأنتني.سألتها إن كانت جائعة، فأجابت بأنها ليست جائعة مع إنها لم تأكل. سألتها إن كانت عَطشة، ففهمت من صمتها وابتسامتها الخجولة إنها عطشانة، فاشتريت لها العصير الذي تحب من أقرب متجر، وأكملت السير وهي تشرب العصير.ازدادت الأعداد، وعلت الأصوات، وازداد الألم في داخلي، والمسؤولية، والخوف، والورطة، لكن غمرتني جرعات هائلة من الحب والعطاء. سألتها عن اسمها، فقالت لي "اسمي فلسطين يا عمو"، يا الله.. حملت فلسطينًا على يدي، احتضنتها، وسقيتها عصيرًا، وأبحث لها عن ضالتها. يا الله.لم تنته المظاهرة، لكن الأعداد قلت، ومن بقي أُرهق، خاصة بعد أن انتشرت أخبار بموجة جديدة من التهجير القسري في غ ز ة. سرت كثيرًا وفلسطين على يدي أضمها نحو صدري، وبدأت قدماي تؤلمني من كثرة المشي. أوقفتني فلسطين فجأة، فقلت خيرًا، حتمًا رأيتي أحدًا، أين هم يا فلسطين؟ فقالت لي: ع شو بتدور يا عمو؟ أنا فلسطين، شهيدة، بيتنا انقصف وبابا وماما وخَيي تحت الانقاض، وأنا سبقتهم عالسما، إذا لقيتهم قلهم فلسطين مشتاقة لكم كتير. يللا تعالوا ع هون.علَت الأصوات من حولي، المظاهرة كلها تهتف "فلسطين فلسطين.. فلسطين فلسطين". نظرت لفلسطين فلم أجدها بين يدي، طارت، فحملت فلسطينًا في صدري، وأكملت السير بحثًا عنها وكل ما يتعلق بها.
الثلاثاء، 22 أكتوبر 2024
الخميس، 26 أكتوبر 2023
هذا الصباح
الاثنين، 23 أكتوبر 2023
ليطمئن قلبي…
حق أصيل لكل مؤمن ومُحِب لربنا إنه يسأل عن وجوده، خصوصًا في الأوقات الصعبة. مزيج جميل ومُقلق بين العجز، والخيبة، والرجاء، والوجع، والأمل، والخوف، واليقين في قدرته على تغيير الحال المايل بكلمة كُن.. فيكون.
أعتقد إن هذا الشك المؤلم الجميل كثيرًا ما يأتي من شدة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والسَخَط على الظرف الصعب القاسي، والاعتراف بإنه خرج من حيز قدرة البشر الضعفاء على التغيير، ولم يبقى الأمل إلا في الإنقاذ الإلهي. ماهو طالما العالم مالوش كبير، يبقى كبيره مين؟ ربنا.. انقذنا يا الله.
مع الأسف الشديد اتحرمنا من حقنا الأصيل والبديهي في السؤال، والشك، مع إن سيدنا إبراهيم عملها قبلنا وقال لربنا (ليطمئن قلبي). “رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي” - صدق الله العظيم.
يعني سيدنا إبراهيم عليه السلام قال لربنا أرني كيف تحيي الموتى (ليطمئن قلبه)، وأنا العبد الفقير لله المغلوب على أمره في ٢٠٢٣، ماليش الحق اقول لربنا انقذنا من الظلم (ليطمئن قلبي)؟ ده أنا مش طمعان اشوف الأموات يبقوا إحياء ليطمئن قلبي، أنا بس عايز المعجزة اللي تخلي الأحياء مايبقوش موتى بالظلم والقهر ده.. أنا مش عايز اشوف أمهات مكلومة أو في الكفن.. ولا أطفال مقهورة أو في الكفن.. مش عايز اشوف أكفان صغيرة.. ولا أكفان كبيرة.. ليطمئن قلبي.. ممكن؟
لو ماغضبتش من الدنيا دلوقتي، هاتغضب امتى؟ لو ماخوفتش دلوقتي، حتخاف امتى؟ ماشكتش دلوقتي، حتشُك امتى؟ لو مالجأتش لربنا دلوقتي وآمنت بإن (وما النصر من إلا من عند الله) -سورة الأنفال-، وقبلها على طول "لتطمئن به قلوبكم".. برضه. (وما جعله الله إلا بُشرى ولتطمئن به قلوبكم.. وما النصر إلا من عند الله) - صدق الله العظيم.
ربنا مش هايطمننا إلا لو خوفنا، واحنا مش هنخاف إلا لو ماشكيناش في احتمالية النجاة، والشك، يؤدي للسؤال، يؤتيك الله الردود من حيث لا تدري.. ليطمئن قلبك.
كم الظلم والقهر في العالم حاليًا أكبر من قدرتي على الاستيعاب.. فين المعجزات؟ يعني إيه شايفين الظلم بيحصل عيني عينك قدامنا بمباركة العالم أجمع.. فين المعجزات؟ من بداية الحرب وأنا مبسألش ده بالكلام، بس بابُص للسما وانا متأكد إن ربنا عارف سؤالي.. وأكيد أنا مش الوحيد اللي بيسأل نفس السؤال.
ثم.. شكيت في تفسيري للتدخل الإلهي، وللمعجزة التي أنتظرها.. هو أنا مستني إيه؟
شعب مطحون بقاله ١٠٠ سنة، من كُتر البهدلة واعتيادهم التكفين والتغسيل والدفن بقوا يخلفوا كتير عشان اللي بيروح أكتر. الاستيطان فضل يزنقهم يزنقهم يزنقهم لغاية ما حشرهم في رُكناية اسمها (غزة)، مساحة ٣٦٥ كيلومتر مربع (يعني قد مدينة نصر)، عايش فيها فوق ال ٢ مليون نسمة، يعني أكبر مُعدل تكدس في العالم. بلد مفيهاش مطار -اتقصف-، محاصرة من كل النواحي، مبتدخلش نسمة هوا غير بموافقة المُحتل. الشريط الصغير ده، حارب إسرائيل المدعومة من العالم أجمع، في ٢٠٠٨ و ٢٠٠٩ و ٢٠١٢ و ٢٠١٤ ، و ٢٠٢١ ، و ٢٠٢٢ ، ودلوقتي في ٢٠٢٣.. وهي المرة الأشرس. ده غير المناوشات والخسائر الموجودة دائمًا لغاية ما اعتادوها.
بلد قايمة على مقاومة غير نظامية، بتواجه جيوش كاملة بطيارات ودبابات، بشيء أشبه بال(بومب والصواريخ). وحتى بالإمكانيات المعدومة دي، بتواجه نظام القبة الحديدية اللي بيدعي المحتل إنه أقوى نظا حماية للمجال الجوي في العالم من أي هجوم. ومع ذلك.. البلد دي لسة موجودة، وصامدة، وأهلها لسة موجودين.. ماخلصوش.
أنا مش هاقول لك ازاي قاموا بعد كل حرب من اللي فاتوا وبنوا بلدهم تاني، خصوصًا إن في كل مرة الاستهداف بيبقى للبنية التحتية بالذات، وده لإن العدو جبان.. شديد الجُبن والخِسَّة. أنا هسأل بس على مدار الاسبوعين اللي فاتوا دول، هما ازاي لسة موجودين؟ الضرب مابيوقفش لحظة على الهوا، مفيش مياه ولا أكل ولا كهرباء ولا بنزين ولا أدوية، فوق ٧٠٪ من سكان البلد بيوتهم راحت، فوق ال٤٥٠٠ بني آدم راحوا حتى الآن (مع الأسف والألم في ازدياد)، وفوق ال ١٣ ألف مُصاب.. البلد بقت ركام.. والعالم كله موافق وراضي وبيسقف.. وبيمول كمان.. والداعمين اللي زيي وزي حضراتكم أقصى ما نقدر نعمله هو إننا نتكلم عنهم في العلن.. ونعيط في السر.
البلد دي ازاي موجودة لغاية دلوقتي؟ وازاي بتطلع لها شمس كل يوم؟ وازاي بييجي عليها بكرة؟ ازاي بيتحملوا كل الخذلان والظلم ده في رضا، وقوة وشموخ في نفس الوقت؟
البلد دي وأهلها هما المُعجزة اللي خلقها الله.. وكفى بهما مُعجزة.
المُعجزة أتت في فلسطين، المعجزة غزة.. لكن احنا اللي محتاجين معجزة عشان نقدر نوقف عياط.
الجمعة، 25 أغسطس 2023
مثلك يا حجر
ورثت عن أبي مكتبة مُمتلئة عن آخرها بكتبٍ قديمة اصفرت أوراقها، ألجأ إليها كلما حزنت، لذا ألجأ إليها كثيرًا. دأب أبي في تكوين مكتبته، وقضى أيامًا في فهرستها وكتابة العناوين وأسماء المؤلفين بخطه الجميل على كعب كل كتاب ليسهل علينا التمييز والاختيار. ورثت عن أبي إدمان اقتناء الكتب، والذي ليس له علاقة بشغفي بالقراءة، هذا شيء وذلك شيء آخر. أقتني الكتب لأضمن لنفسي رفقاء دائمين لن يتركوني مهما طال الزمان. كنزٌ أورثه لأولادي وأحفادي يحمي عقولهم من الصدأ. أوراق تصفر بمرور الزمن، وتزداد رائحتها حلاوة.
اعتدت أن أحترم الكبير، ليس لإنجازٍ شخصي له، ولكن كقاعدة عامة واجبة التنفيذ ما استطعت إليها سبيلا، ومادام الكبير يحترم نفسه. لم يكن له دورًا في مجيئه للدنيا في تاريخ مُعين، ولم يَكُن لي يَد في أن آتي بعده. كل ما في الأمر أنه قضى وقتًا أطول مني في هذه الدنيا، وهو في ذاته أمر يستحق الشفقة والطبطبة وتطييب الخاطر.
أقف مشدوهًا فاتحًا فاهي عن آخره منبهرًا أمام الآثار والمعابد ودور العبادة القديمة. أكَم من أحداث تشيب لها الرؤوس مرت على هذا العالم ومازالوا محافظين على هيئتهم؟ فقد أبو الهول أنفه ومازال حيًا بالجيزة في ظاهرة خارقة للطبيعة، دلالتها أنك بقائك حيًا في مصر شريطة فقدانك مناخيرك من كثرة الشخر. صمدت أهرامات الجيزة ولم تهتز بتوالي الأنظمة والحكومات والظروف بشكل عام، لم يجرؤ أحد على هدمها.. حتى الآن.
تحمل حجر رشيد غُربة في بريطانيا منذ ١٨٠١ ولم يطلب من إدارة المتحف البريطاني أجازة واحدة لمصر. صحيح أنه لم يرسل أي حوالات لمصر بالعملة الصعبة لدعم الاقتصاد، لكن لا عَجَب. حافظ الحجر على مصريته ولم يأخذ الجنسية البريطانية، ظل ماكثًا بالقسم المصري حاملًا اسم البلد التي لم تصونه وتحافظ عليه. اكتشف الضابط المهندس الفرنسي فرنسواه بوشار حجر رشيد في ١٧٩٩، فك رموزه شامبليون ١٨٢٢، ثم رقد رشيد في مثواه الأخير بالمتحف البريطاني حيث يطوف الناس حوله منبهرين من كل جانب. أما نحن فاكتفينا بدور عاطف في فيلم الناظر: شكرًا. هاجر حجر رشيد من بلده التي لم تفهم طلاسمه، وارتمى في أحضان الأوربيون الذين فكوا رموزه.
دخلت القسم المصري بالمتحف البريطاني، وابتسمت في فخرٍ من حفاوة الزائرين بآثار بلدي. وقفت أمام حجر رشيد، نظرت إليه، غلبتني رغبة عارمة في البكاء، فاستأذنت من عيني دمعة في الانصراف، فتركتها. نظرت لرشيد وأخبرته بأني مثله لم تفهمني مصر.. ولم أفهمها.. ولكني أُحبها.. تمامًا مثلك يا حجر.. تمامًا مثلك يا حجر.
الاثنين، 31 يوليو 2023
بين هذا وذاك
الأربعاء، 25 يناير 2023
حديث الأمل والخيبة
٢٥ يناير ٢٠٢٣
أنا فخورٌ اليوم. فخورٌ بنفسي، وبكل من هم مثلي.
تعالَ أنت وعقلك هُنا لحظة، تعالَ ولا تذهب بعيدًا، الموضوع وما فيه يا صديقي العزيز هو أني فخورٌ بنفسي فقط لأني صحوت مبكرًا في موعدي وانتزعت جسدي انتزاعًا من السرير الذي يثبتني فيه الاكتئاب يوميًا بمسامير. أنا أيضًا حضرت وجبة فطور صحية، بل أكلتها، وأعددت قهوة لنفسي، وشربتها أيضًا. أزيدك من الشعر بيتًا؟ تمكنت من الخروج اليوم من البيت وها أنا أكتب لك الآن من خارج المنزل.
قُل لي بالله عليك، لمَ أفخر بشيء آخر أو أحزن على شيء أعَم؟ يعني، ومع احترامي لي ولك، لو لم نشارك وقتها هل كان سيفتقدنا أحد؟ كانوا أطلقوا عليها مليونية إلا فلانًا مثلًا؟ طب هل غيرنا شيئًا في مسار الأمور ومسئولين عما آلت إليه؟ لست نادمًا على شيء، ولا فخورًا بشيء، أنا فقط أدركت حجمي الحقيقي. أنا جسدٌ يحوي أعضاءً بعضها يعمل بكفاءة والبعض الآخر لا. أنا قلب أنهك صاحبه ولم يغير العالم، سيتوقف عن العمل عاجلًا أم آجلًا لو وجه القناص عليَّ رصاصة أو لما يأذن الله تعالى بكل بساطة.
الإيمان بالقدرة الفردية على التغيير على حلاوته لكن مثير للشفقة، والإيمان المُطلق بالقدرة الجماعية على التغيير أيضًا محل جدال. الكثرة لا تغلب الشجاعة لنكن واضحين، بل الجُبن غالبًا ما يغلب الكثرة الشجاعة. هل هناك أشجع من الفلسطينيين الذين يواجهون الاحتلال والموت بصدور عارية؟ وهل هناك أخَس وأجبن من الجُندي المُحتل الذي يدكهم دكًا بضغطة زر مختبئًا في طائرته أو مدفعه المُصَفَّح؟
المُعادَلَة ضبابية وغير واضحة، والأكيد أن أطرافها ليسوا الكثرة والشجاعة فحسب، بل لست متأكدًا إن كانا من أطرافها أصلًا.
هل نحن مؤثرين في شيء حتى على الصعيد الشخصي؟ طبعًا الحديث عما إذا كان الإنسان مُسيَّرًا أم مُخَيَّرًا لا ينتهي، لكن لو كنا مخيرين فسوف أعلن اختياري واضحًا وصريحًا لنفسي وللعالم، سوف أخلي مسؤوليتي من كل هذا العبث. اخترت أن يصبح العالم مكانًا أجمل بلا كراهية ولا ظلم، بلا فقر ولا جوع، بلا كراهية ولا إقصاء، بلا خوف ولا فزع. اخترت عالمًا لا يعاقب الحالم على حلمه، ولا الفقير على فقره، ولا المريض على مرضه. اخترت عالمًا أكثر رفقًا بالضعفاء وأصحاب الحظ العسر. أما لو كنت مِسيِّرًا، وهو الأقرب، فقد تركت نفسي للأيام تفعل بي ما تشاء، لكني لن أتوقف عن محاولة القيام في الصباح من السرير، وتحضير فطور صحي، وشرب القهوة لعلي أهزم الاكتئاب يومًا ما مُسيرًا كنت أو مخيرًا.
الجمعة، 18 نوفمبر 2022
أوردر الإنسان الحجري من ماكدونالدز
افتتحت الجلسة مع المعالج النفسي وأنا أخبره عن شكوكي في أدواته برُمَّتها. يا عزيزي أنت فقط تحاول أن تُجمل الواقع، وما بيننا هو "بيزنيس" في الأول والآخر. مع احترامي لعلمك الغزير، أنا أدفع لك مبلغًا باهظًا من المال لأجلس معك ٤٥ دقيقة بالتمام والكمال، لا تزيد عن ذلك دقيقة، وأنت تقدم لي في المقابل خدمة. أنا واحد من ضمن مجموعة كبيرة من ال"كلاينتس" الذين يأتون إليك، وكلمة كلاينتس (أي عملاء) هو الاصطلاح الجديد الذي أصبحوا يطلقونه على من يبتغون العلاج النفسي، وهذا ربما لأن كلمة (مرضى) مُحرجة بعض الشيء، وربما أيضًا لأننا جميعًا أصبحنا مرضى نفسيين، فأحببوا أن يُجَمِّلوا الأمر قليلًا. أحكو لك في ٤٥ دقيقة معاناة أعيشها ٢٤ ساعة. تسمعها، تدَوِّن ملاحظاتك في دفتر يحوي عشرات الملاحظات عن أشخاص آخرين، ثم تنتهي الجلسة ويذهب كل منا لحاله. في الأول والأخير، سعر الدولار ارتفع علينا نحن الاثنين، وكلانا سوف يدفع كل ما يملك لرادارات التجمع الخامس. أنت لن تُغير الواقع، أنت فقط تأخذ نصف مرتبي الشهري لأتحدث معك قليلًا.
أقضي معظم وقتي أبحث عن سلامي النفسي، إبرة في كومة قش. لم أجد سلامي النفسي بالشوكولاتة الداكنة بالبندق رغم ما تغمرني به من سعادة لحظية. ترفع لي مستويات الدوبامين بمخي، لكنها ترفع لي السكر بالدم أيضًا وتعرضني للسمنة. لم أجد سلامي النفسي في طلبي المعتاد من ماكدونالدز بالثانية صباحًا، بيج تيستي كومبو لارچ، هذه الوجبة لا تداوي جراحي رغم حلاوتها، فقط تشعرني بالتخمة وتصيبني بالحموضة.
وجدتني مؤخرًا أنسى أشياءً بديهية؛ محفظتي، مفاتيحي، هاتفي، ثم تطور الأمر حتى أصبحت أنسى العناصر الأساسية في قاعدة تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات من أجل البقاء الإنساني، أنسى النوم والأكل. عندما تذكرت الأكل ذات مرة، اكتشفت شيئًا يدلني على بعض من السلام النفسي.
لي وجبة واحدة في اليوم، آكلها مساءً. أرجو ألا تعاتبني على ذلك وتنصحني بأكل ثلاث وجبات، لأني أعلم ذلك جيدًا، وصدقني لن تضيف نصيحتك لي شيئًا، أنا آسف.
عادةً ما أختار السلطة، ألوانها زاهية، مُغذية، تسمح لي بأكل كمية كبيرة بلا خوف من سعرات حرارية زائدة، والأهم من ذلك أن تحضيرها، رغم وقته الطويل، لكنه يمنحني بعضًا من السلام النفسي. هي أيضًا مُشبعة جدًا، وهي ليست مُشبعة فقط من أجل قيمتها الغذائية، لكن المشقة ذاتها في الوصول لطبق سلطة متكامل تساعدني على الشبع.
يشبع تحضير السلطة غرائزي الإنساني، غريزتنا كبشر أن نشقى من أجل الوصول، ويرتبط معدل شقائنا طرديًا مع ما نجنيه من مكافأة، تشقى لتدخل الجنة، تشقى لتنجح، تشقى لتتزوج حبيبتك، وهكذا. كان الإنسان بالعصر الحجري يسير مئات الأميال ليحصل على غذائه، يجد فريسة هنا أو هناك يصطادها بحجر أو عود خشب أو حتى عظمة احتفظ بها من الفريسة السابقة. لم يجد الإنسان الحجري غذائه بسهولة، لم يداوي الإنسان الحجري جراحه بأوردر بيج تيستي كومبو لارچ من ماكدونالدز في الثانية صباحًا أو فطيرة مشكل جبن من بيتزا السلطان. كل كائن له غريزته، انظر إلى قطتك التي تربيها بالبيت، لها غريزة الانقضاض، تشبعها عندما تلاعبها، تجري وتنقض على ألعابها، أو عندما ترمي لها كرة. أنا أيضًا أشبع غريزتي الإنسانية بتحضير السَلَطة، لذلك اعتمدت السَلَطة علاجًا.. العلاج بالسَلَطة.
أتغيب عن جلستي الأخيرة مع المعالج النفسي، تتصل بي السكرتيرة لتسألني عن غيابي، فأخبرها بما حدث: "معلش أصل وقتها كنت بعمل سَلَطة"، ثم نحدد ميعادًا آخرًا. لا أدري إن كان لردي عليها علاقة بما أخبرني به الطبيب بالجلسة التالية، فقد أجرى تعديلًا في أدويتي وأضاف على الروشتة مضادًا للذُهان. قلت له متعجبًا: ذُهان إيه يا دكتور… ده الموضوع كله يتحل بخسايتين واتنين كيلو طماطم.