الجمعة، 25 أغسطس 2023

مثلك يا حجر

أُحِب الأشياء القديمة، أحترمها وأُقدرها وأنحني إجلالًا لها. رائحة بيت جدتي بالإسكندرية، خليط من رائحة الباركيه والموكيت وعطرها الذي تستخدمه يوميًا، وروائح أُخرى حاولت مرارًا أن أميزها ولم أنجح. كل ما أعرفه أن جدتي رحلت، ولم ترحل رائحتها.
 
ورثت عن أبي مكتبة مُمتلئة عن آخرها بكتبٍ قديمة اصفرت أوراقها، ألجأ إليها كلما حزنت، لذا ألجأ إليها كثيرًا. دأب أبي في تكوين مكتبته، وقضى أيامًا في فهرستها وكتابة العناوين وأسماء المؤلفين بخطه الجميل على كعب كل كتاب ليسهل علينا التمييز والاختيار. ورثت عن أبي إدمان اقتناء الكتب، والذي ليس له علاقة بشغفي بالقراءة، هذا شيء وذلك شيء آخر. أقتني الكتب لأضمن لنفسي رفقاء دائمين لن يتركوني مهما طال الزمان. كنزٌ أورثه لأولادي وأحفادي يحمي عقولهم من الصدأ. أوراق تصفر بمرور الزمن، وتزداد رائحتها حلاوة.
 
اعتدت أن أحترم الكبير، ليس لإنجازٍ شخصي له، ولكن كقاعدة عامة واجبة التنفيذ ما استطعت إليها سبيلا، ومادام الكبير يحترم نفسه. لم يكن له دورًا في مجيئه للدنيا في تاريخ مُعين، ولم يَكُن لي يَد في أن آتي بعده. كل ما في الأمر أنه قضى وقتًا أطول مني في هذه الدنيا، وهو في ذاته أمر يستحق الشفقة والطبطبة وتطييب الخاطر.
 
أقف مشدوهًا فاتحًا فاهي عن آخره منبهرًا أمام الآثار والمعابد ودور العبادة القديمة. أكَم من أحداث تشيب لها الرؤوس مرت على هذا العالم ومازالوا محافظين على هيئتهم؟ فقد أبو الهول أنفه ومازال حيًا بالجيزة في ظاهرة خارقة للطبيعة، دلالتها أنك بقائك حيًا في مصر شريطة فقدانك مناخيرك من كثرة الشخر. صمدت أهرامات الجيزة ولم تهتز بتوالي الأنظمة والحكومات والظروف بشكل عام، لم يجرؤ أحد على هدمها.. حتى الآن. 
 
تحمل حجر رشيد غُربة في بريطانيا منذ ١٨٠١ ولم يطلب من إدارة المتحف البريطاني أجازة واحدة لمصر. صحيح أنه لم يرسل أي حوالات لمصر بالعملة الصعبة لدعم الاقتصاد، لكن لا عَجَب. حافظ الحجر على مصريته ولم يأخذ الجنسية البريطانية، ظل ماكثًا بالقسم المصري حاملًا اسم البلد التي لم تصونه وتحافظ عليه. اكتشف الضابط المهندس الفرنسي فرنسواه بوشار حجر رشيد في ١٧٩٩، فك رموزه شامبليون ١٨٢٢، ثم رقد رشيد في مثواه الأخير بالمتحف البريطاني حيث يطوف الناس حوله منبهرين من كل جانب. أما نحن فاكتفينا بدور عاطف في فيلم الناظر: شكرًا. هاجر حجر رشيد من بلده التي لم تفهم طلاسمه، وارتمى في أحضان الأوربيون الذين فكوا رموزه.
 
دخلت القسم المصري بالمتحف البريطاني، وابتسمت في فخرٍ من حفاوة الزائرين بآثار بلدي. وقفت أمام حجر رشيد، نظرت إليه، غلبتني رغبة عارمة في البكاء، فاستأذنت من عيني دمعة في الانصراف، فتركتها. نظرت لرشيد وأخبرته بأني مثله لم تفهمني مصر.. ولم أفهمها.. ولكني أُحبها.. تمامًا مثلك يا حجر.. تمامًا مثلك يا حجر.
 
أعترف بأن مصر عَصيَّة على فهمي. بلدٌ شديدة الجمال والقُبح في آنٍ واحد. شعبٌ ليس له كتالوج، تارة يجعلني فخورًا وتارتين يجعل مفقوعًا. قرأت في أنظمة السياسة والاقتصاد، ولم أقتنع لمصر بتصنيفٍ واحد على مر التاريخ. بلد غلطة الكمبيوتر، وتعاشب شاي، ومع احترامي لحضرتك، وبدون قطع كلامك. بلد الفنانين والشعراء والكتاب والعباقرة والضلالية والمفتريين والأمين أشرف والبصمجية الذين لا يفرقون الألِف من كوز الذرة. بلد لم تفهمني، ولم أفهمها، ولكننا قررنا ألا ننفصل عشان الأولاد. بلد إذا أردت أن تنفصل عنها، لن تنفصل عنك ولو أخذت ١٠٠ جنسية أُخرى. مصر وحمة، طالعالنا كلنا، ومش هاتروح، ولو روحنا لأشطر دكتور تجميل عشان يشيلها، هتسيب علامة. 

لم أفهم مصر، ولم تفهمني. صُنتها، ولم تصنِّي تمامًا كما لم تَصُن الحجر. أنا مثلك يا حجر.



الاثنين، 31 يوليو 2023

بين هذا وذاك

 يطلع موظف السفارة على رقمي القومي وباقي المستندات، يتنهد بنفاد صبر ثم يدفس يده في مظروف يحوي مجموعة جوازات، يلتقط باسبوري ويمنحني إياه بابتسامة باردة كغرفة بلا سقف فوق السطوح في يناير يسكنها أسرة بسيطة ربها يعمل ثلاث شغلانات. ابتسامة حارة كعناق الأم بعد سفر طويل. ابتسامة مؤسفة كحال المشردين وأطفال الشوارع، حالمة كحلم أحدهم بأن يصبح طبيبًا ليعالج المُحتاجين ويزوج إخوته البنات اللواتي في رقبته. ابتسامة تربت على كتفي وتتمنى الخير، ثم سرعان ما تُعاتب وتغبطني. ابتسامة روتينية مُعتادة صارت جزءًا من وظيفته التي يمنح بمقتضاها عشرات التأشيرات يوميًا للبشر الفَرحين بما أتاهم الله من فضله، تمامًا كطبيب النساء والتوليد وهو يخبر الأزواج بالسر المُفرح وراء انقطاع الدورة الشهرية، "المدام حامل"، لينتظرا حُكم بالمؤبد قادمٌ لا محالة بعد بضعة أشهر، ويدخلا منذ حينها في الدورة الأكبر الذي لن يفيق أحدهما منها إلا وهو في طابور المعاشات، يسأل: هو الوقت ده كله فات امتى؟ يفيق منها وحيدًا، فلم تُمهل الحياة شريكه أن يُكمل الرحلة معه، لم تُمهله أن يصل إلى الستين ويتقاعد، مات وتُراب الشارع على قدميه، مات قبل المعاش.
ابتسامة مُملة كزواج مستمر عشان الأولاد، مُعاتبة كعتاب الأحباب، كارهة ككره سيدنا الحسين للظلم، مُتسامحة كنظرته الأخيرة إلى السماء قبل أن تصعد روحه إلى السماء في كربلاء، راضية كرضا الإمام الحسين عن نفسه حينما انتصر للحق وإن قبحت العواقب. ابتسامة مُضطربة رغم اعتيادها وتكرارها، تزداد اضطرابًا وريبة كلما ابتسمها قرابة نهاية الشهر واقتراب موعد سداد إيجار البيت، وتقل حدتها بعد نزول المرتب في أول كل الشهر. ابتسامة مُتفهمة لخصوصية اللحظة وما تعنيه لشاب مصري يترك أهله ويسافر للدراسة. ابتسامة سريعة ومُتعجلة لأن الطابور طويل والناس منتظرون بالخارج في عز الحر. ابتسامة ملؤها الفَخر كأنما قد منحني التأشيرة هو بنفسه بعد أن انتزعها لي من فم ملكة بريطانيا انتزاعًا. ابتسامة حلوة كالشاي الزيادة الذي يشربه عاملو النقاشة في استراحتهم. ابتسامة مُرة كقهوة سادة وُضعت أمامك في سرادق العزاء. 
ابتسم، وقال: مبروك.
ابتسمت بدوري. أدرت وجهي، واستحال الجو شديد الحرارة صقيعًا كالرصاص قطع عني الإحساس بأطرافي، ثم ينفجر بداخلي بُركانًا يذيب الثلج الذي هطل عليَّ من السماء. منذ يومها لم تستقر درجات الحرارة بداخلي، وصرت بين راحتي يدي الدنيا تقلبني كما شاءت، بين الضحك والبكاء، بين الأمل والخيبة، بين الإصرار وفقدان الأمل، بين الإحساس بالعقل والتفكير بالقلب.
تلهو بي الدنيا بين هذا وذاك، تتلقفني يد وتقذفني لأخرى على النقيض، ويستمر الحال حتى أسقط من كل الأيادي، وأسكن. 
إلى حينها.. أَحلُم.

الأربعاء، 25 يناير 2023

حديث الأمل والخيبة

٢٥ يناير ٢٠٢٣

أنا فخورٌ اليوم. فخورٌ بنفسي، وبكل من هم مثلي.

تعالَ أنت وعقلك هُنا لحظة، تعالَ ولا تذهب بعيدًا، الموضوع وما فيه يا صديقي العزيز هو أني فخورٌ بنفسي فقط لأني صحوت مبكرًا في موعدي وانتزعت جسدي انتزاعًا من السرير الذي يثبتني فيه الاكتئاب يوميًا بمسامير. أنا أيضًا حضرت وجبة فطور صحية، بل أكلتها، وأعددت قهوة لنفسي، وشربتها أيضًا. أزيدك من الشعر بيتًا؟ تمكنت من الخروج اليوم من البيت وها أنا أكتب لك الآن من خارج المنزل. 

قُل لي بالله عليك، لمَ أفخر بشيء آخر أو أحزن على شيء أعَم؟ يعني، ومع احترامي لي ولك، لو لم نشارك وقتها هل كان سيفتقدنا أحد؟ كانوا أطلقوا عليها مليونية إلا فلانًا مثلًا؟ طب هل غيرنا شيئًا في مسار الأمور ومسئولين عما آلت إليه؟ لست نادمًا على شيء، ولا فخورًا بشيء، أنا فقط أدركت حجمي الحقيقي. أنا جسدٌ يحوي أعضاءً بعضها يعمل بكفاءة والبعض الآخر لا. أنا قلب أنهك صاحبه ولم يغير العالم، سيتوقف عن العمل عاجلًا أم آجلًا لو وجه القناص عليَّ رصاصة أو لما يأذن الله تعالى بكل بساطة. 

الإيمان بالقدرة الفردية على التغيير على حلاوته لكن مثير للشفقة، والإيمان المُطلق بالقدرة الجماعية على التغيير أيضًا محل جدال. الكثرة لا تغلب الشجاعة لنكن واضحين، بل الجُبن غالبًا ما يغلب الكثرة الشجاعة. هل هناك أشجع من الفلسطينيين الذين يواجهون الاحتلال والموت بصدور عارية؟ وهل هناك أخَس وأجبن من الجُندي المُحتل الذي يدكهم دكًا بضغطة زر مختبئًا في طائرته أو مدفعه المُصَفَّح؟

المُعادَلَة ضبابية وغير واضحة، والأكيد أن أطرافها ليسوا الكثرة والشجاعة فحسب، بل لست متأكدًا إن كانا من أطرافها أصلًا. 

هل نحن مؤثرين في شيء حتى على الصعيد الشخصي؟ طبعًا الحديث عما إذا كان الإنسان مُسيَّرًا أم مُخَيَّرًا لا ينتهي، لكن لو كنا مخيرين فسوف أعلن اختياري واضحًا وصريحًا لنفسي وللعالم، سوف أخلي مسؤوليتي من كل هذا العبث. اخترت أن يصبح العالم مكانًا أجمل بلا كراهية ولا ظلم، بلا فقر ولا جوع، بلا كراهية ولا إقصاء، بلا خوف ولا فزع. اخترت عالمًا لا يعاقب الحالم على حلمه، ولا الفقير على فقره، ولا المريض على مرضه. اخترت عالمًا أكثر رفقًا بالضعفاء وأصحاب الحظ العسر. أما لو كنت مِسيِّرًا، وهو الأقرب، فقد تركت نفسي للأيام تفعل بي ما تشاء، لكني لن أتوقف عن محاولة القيام في الصباح من السرير، وتحضير فطور صحي، وشرب القهوة لعلي أهزم الاكتئاب يومًا ما مُسيرًا كنت أو مخيرًا.




الجمعة، 18 نوفمبر 2022

أوردر الإنسان الحجري من ماكدونالدز

 افتتحت الجلسة مع المعالج النفسي وأنا أخبره عن شكوكي في أدواته برُمَّتها. يا عزيزي أنت فقط تحاول أن تُجمل الواقع، وما بيننا هو "بيزنيس" في الأول والآخر. مع احترامي لعلمك الغزير، أنا أدفع لك مبلغًا باهظًا من المال لأجلس معك ٤٥ دقيقة بالتمام والكمال، لا تزيد عن ذلك دقيقة، وأنت تقدم لي في المقابل خدمة. أنا واحد من ضمن مجموعة كبيرة من ال"كلاينتس" الذين يأتون إليك، وكلمة كلاينتس (أي عملاء) هو الاصطلاح الجديد الذي أصبحوا يطلقونه على من يبتغون العلاج النفسي، وهذا ربما لأن كلمة (مرضى) مُحرجة بعض الشيء، وربما أيضًا لأننا جميعًا أصبحنا مرضى نفسيين، فأحببوا أن يُجَمِّلوا الأمر قليلًا. أحكو لك في ٤٥ دقيقة معاناة أعيشها ٢٤ ساعة. تسمعها، تدَوِّن ملاحظاتك في دفتر يحوي عشرات الملاحظات عن أشخاص آخرين، ثم تنتهي الجلسة ويذهب كل منا لحاله. في الأول والأخير، سعر الدولار ارتفع علينا نحن الاثنين، وكلانا سوف يدفع كل ما يملك لرادارات التجمع الخامس. أنت لن تُغير الواقع، أنت فقط تأخذ نصف مرتبي الشهري لأتحدث معك قليلًا.

أقضي معظم وقتي أبحث عن سلامي النفسي، إبرة في كومة قش. لم أجد سلامي النفسي بالشوكولاتة الداكنة بالبندق رغم ما تغمرني به من سعادة لحظية. ترفع لي مستويات الدوبامين بمخي، لكنها ترفع لي السكر بالدم أيضًا وتعرضني للسمنة. لم أجد سلامي النفسي في طلبي المعتاد من ماكدونالدز بالثانية صباحًا، بيج تيستي كومبو لارچ، هذه الوجبة لا تداوي جراحي رغم حلاوتها، فقط تشعرني بالتخمة وتصيبني بالحموضة.

وجدتني مؤخرًا أنسى أشياءً بديهية؛ محفظتي، مفاتيحي، هاتفي، ثم تطور الأمر حتى أصبحت أنسى العناصر الأساسية في قاعدة تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات من أجل البقاء الإنساني، أنسى النوم والأكل. عندما تذكرت الأكل ذات مرة، اكتشفت شيئًا يدلني على بعض من السلام النفسي.

لي وجبة واحدة في اليوم، آكلها مساءً. أرجو ألا تعاتبني على ذلك وتنصحني بأكل ثلاث وجبات، لأني أعلم ذلك جيدًا، وصدقني لن تضيف نصيحتك لي شيئًا، أنا آسف. 

عادةً ما أختار السلطة، ألوانها زاهية، مُغذية، تسمح لي بأكل كمية كبيرة بلا خوف من سعرات حرارية زائدة، والأهم من ذلك أن تحضيرها، رغم وقته الطويل، لكنه يمنحني بعضًا من السلام النفسي. هي أيضًا مُشبعة جدًا، وهي ليست مُشبعة فقط من أجل قيمتها الغذائية، لكن المشقة ذاتها في الوصول لطبق سلطة متكامل تساعدني على الشبع.

يشبع تحضير السلطة غرائزي الإنساني، غريزتنا كبشر أن نشقى من أجل الوصول، ويرتبط معدل شقائنا طرديًا مع ما نجنيه من مكافأة، تشقى لتدخل الجنة، تشقى لتنجح، تشقى لتتزوج حبيبتك، وهكذا. كان الإنسان بالعصر الحجري يسير مئات الأميال ليحصل على غذائه، يجد فريسة هنا أو هناك يصطادها بحجر أو عود خشب أو حتى عظمة احتفظ بها من الفريسة السابقة. لم يجد الإنسان الحجري غذائه بسهولة، لم يداوي الإنسان الحجري جراحه بأوردر بيج تيستي كومبو لارچ من ماكدونالدز في الثانية صباحًا أو فطيرة مشكل جبن من بيتزا السلطان. كل كائن له غريزته، انظر إلى قطتك التي تربيها بالبيت، لها غريزة الانقضاض، تشبعها عندما تلاعبها، تجري وتنقض على ألعابها، أو عندما ترمي لها كرة. أنا أيضًا أشبع غريزتي الإنسانية بتحضير السَلَطة، لذلك اعتمدت السَلَطة علاجًا.. العلاج بالسَلَطة.

أتغيب عن جلستي الأخيرة مع المعالج النفسي، تتصل بي السكرتيرة لتسألني عن غيابي، فأخبرها بما حدث: "معلش أصل وقتها كنت بعمل سَلَطة"، ثم نحدد ميعادًا آخرًا. لا أدري إن كان لردي عليها علاقة بما أخبرني به الطبيب بالجلسة التالية، فقد أجرى تعديلًا في أدويتي وأضاف على الروشتة مضادًا للذُهان. قلت له متعجبًا: ذُهان إيه يا دكتور… ده الموضوع كله يتحل بخسايتين واتنين كيلو طماطم.





 

 



الاثنين، 14 نوفمبر 2022

فوتكم بعافية

بمناسبة النهاردة اليوم العالمي للسكر، حابب أذكرني وإياكم إن العبد الفقير لله كاتب هذه الكلمات، وغيره من مرضى السكر من النوع الأول اللي بياخدوا إنسولين، إن لو كنا قبل دلوقتي ب١٠٠ سنة بس، كان زماني ميت من زمان. قبل اكتشاف الإنسولين في ١٩٢١ كان لما بيكتشفوا مرض السكر من النوع الأول عند حد، بيقطعوا عنه الأكل تمامًا ويعيش على نظام التقشف التام عشان يمدوا في عمره كام أسبوع بس، وبيفضل يفقد وزنه فيهم ويخس يخس يخس.. لغاية ما يموت.
القصة دي في ذاتها على قد صعوبتها، لكن مخلياني حاسس إن حياتي بونَص، نعمة ربنا قرر يديهالي بعد ما كان مكتوب تتشال مني. فرغم الأيام الوَحل اللي الواحد عايشها دي، بحب أفكر نفسي كل شوية باليومين البونَص اللي ربنا اداهملي هدية اقضيهم في الدنيا معاكم وعلى قلبكم، ولما بفكر نفسي بده بحس بمسؤولية وخشى من ربنا إني أسيء استخدام نعمته عليا.
صحيح ربنا كتب لي ولمرضى السكر عُمر جديد، لكن مهم نعرف إن السكر أكتر مرض من الأمراض المنتشرة مظلوم ومنتشر عنه خرافات، رغم إن مصابينه كتير جدًا. مرضى السكر من النوع الأول بيتنَكِّل بيهم يوميًا في مفرمة الحياة، من حيث القدرات الجسدية المحدودة بسبب ذبذبة مستويات السكر في الدم، الجوع والزيادة في الوزن اللي بيسببهم الإنسولين، الأعباء النفسية بسبب إلزامهم بمتابعة نفسهم لحظة بلاحظة من حيث الجرعات والقياسات المتتالية، التجربة الكابوسية لهبوط السكر في الدم، التهديد الدائم باحتمالية الدخول في غيبوبة لو حصل هبوط شديد بدون ما يتلحق، التكاليف المادية المهولة اللي على عاتقهم لتوفير الإنسولين وشرايط التحاليل والأدوية، فطبعًا تخيل غلو الأسعار والمعيشة اللي كلنا بنلطم منه.. ضيف عليهم بقى ٢٠٠٠ جنيه حقن أنسولين شهريًا، ده كده لسة متكلمناش في تكاليف أجهزة القياس ولا الإبر.
لغاية ما ييجي يوم قريب جدًا أحكي باستفاضة عن رحلتي مع السكر، ركز في دايرتك على حد تعرفه عنده سكر، افتكر الدنيا بيه عامل ازاي ومن غيره كانت ممكن تبقى عاملة ازاي، وروح طبطب عليه في صمت تقديرًا للمعاناة اللي بيعيشها كل يوم وماحدش عارف عنها حاجة.
فوتكم بعافية.


الخميس، 3 نوفمبر 2022

الجنة

أنتَ لم تحك لي عن ذكرياتك أيام المدرسة، ولكني أراهنك أنك مررت بهذه التجربة لو كنت من أبناء جيلي. في حمام المدرسة كانوا زملائي واقفين أمام المرآة ممسكين بزجاجة كوكاكولا يشيرون على انعكاسها في المرآة، وجدوا عبارة (لا محمد لا مكة) مكتوبة على شعارها. ألقيت عليهم نظرة، ثم دخلت كابينة الحمام. كان بعضهم يستغفر الله مما رأى، والآخر كان يسب الشركة بما تيسر. خرجوا من الحمام مسرعين لأن حرام أن يُذكَر اسم الله أو النبي بالحمام، واتفقوا جميعًا على مقاطعة الشركة وشرب البيبسي بدلًا منها. كانت رواية هاوية بالنسبة لي، يعني ماذا يفيد شركة مياهًا غازية من أن تسب الله ونبيه؟ ثم إن -ومن منظور نفعي بَحت- هذا لن يفيد الشركة إطلاقًا، فسوف تخسر المستهلكين المسلمين إلى الأبد. على أي الأحوال، كنت الوحيد الذي يشرب الكوكاكولا في فصلنا منذ ذلك الحين.
مال عليَّ زميلي وهو يشير على أحد أصدقائي وكأنما يحذرني منه: "عارف الكلمة اللي على التيشيرت بتاعه دي معناها إيه؟ GAP ، يعني gay and proud -شاذ وأفتخر-". لم أُبد اندهاشًا، تركته ومشيت. لم يكن حينها الكلام عن الهوية الجنسية منتشرًا، لكن الرواية ضعيفة، يعني أنا أخلص من كوكاكولا يطلعلي GAP؟
أتذكر حينما كنت مع أبي على طريق مصر الإسماعيلية الصحراوي، وكان ثمة أُناس يتكالبون على شجرة يقبلونها ويتمسحون فيها. كانت جذع الشجرة مكتوب عليه لفظ الجلالة، واسم النبي محمد. عندما وصلنا البيت، فتحنا التلفزيون على برنامج العاشرة مساءً، وكان أحد علماء الشريعة ضيفًا يوصي بقطع هذه الشجرة لأنها فتنة. تمر السنين ويتطور الإنترنت وتظهر مواقع التواصل الاجتماعي، فاعتدت أن أرى مثل هذه الأشياء، أشجارًا تحمل اسم النبي محمد وأخرى عليها صورة السيد المسيح، تفاح عليه آيات، جوافة عليها حديث، بطيخ، شمام، كمثرى، برتقال، يوسفي. ولا أدري لماذا تظهر هذه المعجزات على الفواكه بالذات، صحيح إن سيدنا آدم أكل التفاحة، ولكن هذا لا يعني أن نأخذ الفتاوى من أفواه الفكهانية.
قرأت منشورين على الفيس بوك اليوم عن الذكاء الاصطناعي، كان واحدًا منهما يخبرنا عن توقع بأن نهائي كأس العالم ٢٠٢٢ سيكون بين قطر والسعودية، وأنا حزين لأن الذكاء الاصطناعي باع ضميره بأموال البترول والنفط. أما المنشور الثاني فبه صور مُتَخَيَّلة للجنة عندما أدخلوا للبرنامج أوصافها. كانت الصور ألوانها ذهبية فاقعة، لم تعجبني بصراحة، ولكني في نفس الوقت نفسي أروح الجنة، فما العمل؟
وعد الله الفائزين بسعادة في الجنة، وأظن أن السعادة شيء نسبي، فما يُسعدك ربما يعكنن عليا، وما يبسطني ربما يضايقك، فكيف تكون جناننا واحدة؟ سمعت مرة أحد الشيوخ وهو يتحدث عن حلاوة الجنة، وأن صفًا مُكون من ١٠٠ امرأة عذراء سوف ينتظر كل رجل، يمارس معهن واحدة تلو الأخرى الجنس. ربما يكن هذا الكلام لطيفًا بالنسبة لجمهور هذا الشيخ، لكنه مُنفرًا بالنسبة لي بصراحة. عفوًا، أنا لست مهتمًا بممارسة الجنس مع عشرات العذراوات اللاتي لا أعرفهن، لو كان الأمر هكذا، فأنا أعفيهن من هذا الأمر.
رزقك الله بعقل يقرأ ويبحث ويفكر ويخترع الأشياء الصالحة، والأشياء الطالحة التي تدمر الكوكب أيضًا، ثم أخبرك بأن الجنة بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم تنتطر من ذكائك الاصطناعي أن يُريك الجنة؟
هذبتني الدنيا وهذبت طموحاتي، ولم أعد أرغب بأشياء كثيرة. يعني لم أعد أحلم بسيارة مرسيدس مثلًا، لست مستعدًا أن تطير الكارتيرة في مطب أو يصدمها ميكروباص يقوده واحد ضارب استروكس أو حبوب صراصير. هذَّب الدولار أحلامي أيضًا، كنت أحلم منذ عامين بفئة عالية من التويوتا ثم انتقلت للفيات تيبو، بعدها اتجهت للبيجو ٣٠١ ثم سرعان ما انتقلت للنيسان صني ثم السوزوكي، حتى وصلت أحلامي الآن للكاريتَّة.
لم يَنهَنا الله على أن نعبده "خوفًا وطمعًا"، من كرمه وفضله علينا أن سمح لنا بأن نطمع كما نشاء في كرمه ولُطفه، وأنا شخصيًا طامع في أن يعاملني الله برحمته لا بعدله. وكما يقول المثل المصري الدارج "إن سرقت اسرق جمل"، لذلك فأنا أطمع في أشياء كثيرة إذا رُزقت بالجنة، ليس من ضمنها إطلاقًا العذراوات.
لو كنت سألتني منذ عدة أعوام عن الجنة، ربما كنت قد وصفت لك الحديقة التي كنت أتمشى فيها منذ يومين بلندن. لكن يومها كنت جلست على دكة خشبية بالحديقة أتذكر جنة الله على الأرض التي يحول بيني وبينها الغُربة: حضن أمي وأخي. كنت أتذكر جنة أخرى كنت فيها يومًا: ضمة أبي لي الذي يحول بيني وبينه الموت. أما لو سألتني عن الجنة في المطلق عندي، فلا يهم أن تكون مثل هذه الحديقة، يكفينا فقط هذه الدكة الخشبية البسيطة، نجلس عليها أبي وأمي وأخي وأنا مرة أخرى.



الاثنين، 31 أكتوبر 2022

لماذا لا أحتفل بالهالوين؟

"أخبارٌ سارة.. ساعة إضافية تقضيها في سريرك قبل العمل"، هكذا مهدت لي صحيفة الصباح نبأ حلول التوقيت الشتوي على المملكة المتحدة. استحت الجريدة أن تخبرني بالحقيقة، فقالت لي كلمة حقٍ يُراد بها باطل. تتقدم عقارب الساعة ستين دقيقة، فيزداد فارق التوقيت بيني وبين مصر إلى ساعتين من الزمان بدلًا من ساعة. الشمس هنا موظفٌ كسول، تأتي متأخرة وتمضي انصرافًا في الرابعة عصرًا، ثم يبدأ الشيفت المسائي؛ ليلٌ طويلٌ لا ينجلي إلا وقد أتمم مُهتمه بتقليب ما فات وذُعر مما هو آت.
يحدد صباحي أشياءً كثيرة، إذا بدأت اليوم سعيدًا فغالبًا ما أكمله هكذا، أما إذا بدأ تعيسًا فيُكتب عليَّ يومٌ صعب. أفوق يوميًا مفزوعًا على رنة منبه هاتفي، أظل أنهج وألهث لدقائق، تتملكني قبضة قلب بقية اليوم. قرأت ذات يوم عن منبه يُباع في بلاد برة يحاكي شروق الشمس في غرفتك المظلمة ذات الستائر المغلقة، حتى تصحو. يبدأ المنبه في الإضاءة تدريجيًا حتى يحين موعدك، ثم تسمع صوتًا تختره أنت. اخترت موسيقى هادئة يتخللها صوت العصافير. قالت المقالات التي قرأتها أنا هذا الاختراع يساعد على انسحاب مادة الميلاتونين تدريجيًا من الجسد، فتفيق من نومك أنشط وأسعد. اشتريت المنبه، أعددته، ثم في الصباح التالي أضاءت غرفتي وزقزقت بها العصافير، أقوم مخضوضًا خضة أقل قليلًا من كل يوم، أضغط على زر الsnooze ليمنحني عشر دقائق إضافية للنوم، يرن ثانيةً، أغلقه وأنام.
يحل عيد الهالوين في اليوم التالي من يوم تغيير الساعة، جيراني يعلقون الأشكال المرعبة على شبابيكهم، يلصقون صورًا لأيادٍ مُلطخة بالدماء وأشباح، الشوارع مبدورة بأناسٍ يرتدون أزياءً تنكرية. كلما رأيت أحدهم متنكرًا، قلت في نفسي "سوف أتنكر هذا العام في هيئة إنسان سعيد". أفتح الإنترنت فأجد أصدقاءً يتنكرون ويحتفلون هم الآخرون بالهالوين، صحيح إنها مظاهر تحضر جميلة نقلناها نصًا من الغرب، لكنها لا تعجبني. ليس لأني عايزنا نعيش عيشة أهالينا، إطلاقًا، لكن لأني أبغض هذا العيد الذي يحتفلون فيه بما هو يُخيف.. مخيفة الحياة بما فيه الكفاية، أو هكذا أعتقد. يعني أولى من أن ترسم دماءً تسيل على جسدك، اذهب إلى معمل التحاليل واجر تحاليلك الدورية التي تؤجلها، وأعدك أن نتيجة الدهون الثلاثية سوف ترعبك أكثر من هذا التنكر. أما إذا تخاف من وخز الإبرة، ومازلت تحب أن ترى دماءً؛ افتح نشرة الأخبار واختر الحرب التي تحب أن تتابع، روسيا وأوكرانيا أم سوريا واليمن؟ أما إذا هفَّك الشوق على بعض من العبث، فلا داعي لتكاليف التنكر، يكفيك أن تقضي ساعة واحدة تتابع التايملاين. إذا لم ترعبك اقتراحاتي السابقة ولاتزال مُصرًا على الاحتفال بالهالوين، فالكارت الأخير الذي أقدمه لك هو أن تجلس مع نفسك في مكان هادئ، بلا كتاب ولا موسيقى ولا موبايل، أنت وعقلك فقط، وتسمع صوت عقلك وهو يُفكر فيما تتهرب منه دائمًا. إذا لم تخف من كل هذا، فأغلب الظن أنك تضحك على نفسك باحتفالات الهالوين التي لا أظن أنها سوف ترعبك، فبالتالي انتفى الغرض منها.
أنا خائف بما فيه الكفاية، يلاحقني عدد لا حصر له من الترومات (جمع trauma)، أستحي أن أعددهم لك حفاظًا على سلامك العقلي وسلامتي أيضًا. يخيفني العالم الذي سيطرت عليه الأموال ودهست كل ما هو حي، دهست المشاعر. أخاف من حرب لم أخترها كُتبت عليَّ. أخاف من الاختيارات جميعها، لا يعجبني البُعد عن بلدي وأهلي حتى ولو لهدف نبيل كالدراسة والشغل على مستقبل أفضل، ولا يريحني البقاء محلك سر. أخاف من الناس، ومن حرصي الدائم على ارتداء حقيبتي حول رقبتي خوفًا من السرقة، كيف لأحدهم أن يسرق؟ هل ينام مرتاح البال؟
لم يستهوِني الآن أمر أن أُعَدِّد لك الأشياء التي أخافها، أولًا لأنها كثيرة جدًا، ثانيًا لأن لا داعي لمثل هذه اللطميات. لكن اختصارًا، أخاف شخصيًا من فكرة أن البشر اعتادوا الرعب وأصبحوا يستعذبونه حتى أصبح مظهرًا من مظاهر الاحتفال. على الفكرة أنا أرى أن القرع العسل (اليقطين) في ذاته مبهجٌ، يعني لما أراه لا يخطر على بالي شيء مرعب في العموم. أنا بس لا أجد ملذة في مظاهر الاحتفال المرعبة. على أي الأحوال، ما رأيكم دام عزكم أن نستغل توافر اليقطين بكثرة ونأتي بواحدة ونعمل طاجن قرع عسلي في الفرن؟ أظن هذا احتفال ألطف.