الخميس، 26 أكتوبر 2023

هذا الصباح

صحَوت من نومي مفزوعًا، صوت رهيب عالٍ وغير مألوف. انفجار يرُج سريري رجًا. تسقط اللوحات من الحوائط، وتقفز الأكواب الزجاجية من النيش، ويتبعثر كل شيء. توقعت انهيار البناية حالًا، الآن، أو بعد لحظة واحدة. لكنها لم تسقط، فاندهشت، وضغطت على زر snooze. 

خمس دقائق أُخَر مرت بسرعة، جاء الصوت ذاته، سأفقد قدرتي على السمع من شدته. ربما قصف جديد. فتحت عيني ببطء، وجدتني في غرفتي، على سريري، وكان ذلك صوت المنبه الذي أسمعه كل يوم منذ سنين.

أشياءٌ ثقيلة تُجثم على صدري، ربما انهارت البناية وسقطت معها، وهذا هو الحجار والركام. أحاول التحرك، أو التَمَلمُل، فلم أجد مساحة ولا سنتيمترًا واحدًا. أنا تحت مبنى كامل، بأعمدته، بخرساناته، وحجارته، وترابه، وسكانه، وذكراياته حتى، كلها جاثمة على صدري. أزحت الغطاء عني.. وقُمت.

على كرسيِّ الهزاز الذي أشرب قهوتي كل صباح وأنا جالسٌ عليه أمام الشباك، يجلس ولدٌ صغيرٌ شديد الجمال، وإلى جواره حقيبته المدرسية. اسمه يوسف، شعره كيرلي، وأبيضاني.. وحلو.

على مكتبي كان يجلس صحفي، اسمه وائل الدحدوح يكتب مقدمة نشرته الإخبارية التي يقدمها على رأس الساعة، وأمامه الأولاد اللي بينتقموا مننا فيهم.. معلش. 

سقطت من الدحدوح دمعة رغمًا عنه، يأتيه رجلٌ من خلفه يربت على كتفه ويقول بنبرة ملؤها القوة التي تكاد من شدتها أن تكون قسوة، والحنان الذي من فرطه يكاد يكون ضعفًا: ماتعيطش يا زلمة.. هادي أرض جهاد أرض رباط.. كلنا فدا فلسطين. كلنا مشروع شهداء.  

 وقفت في الشُرفة. رجال إسعاف يحملون طفلًا يهتف: بنحبكم يا إسعاف.. بنحبكم يا إسعاف. على عذوبتها، لكن وقع الجملة على أذني كان غريبًا بعض الشيء، لماذا تحب الإسعاف يا حبيبي؟ الأطفال في سنك يحبون الكارتون.

أدرت رأسي فرأيت كهلًا أشيب الرأس واقفًا يشاور في قهر على بناية سكنية محطمة. أربعين سنة بشتغل عشان ابني الدار هادي، راحت.. فدا فلسطين. وبكى. إلى جواره كان رجلٌ يقول: والله لن نُرَحَّل ولن تكون نكبة ثانية.. سأبات الليلة في بيتي المُهَدَّم. 

دخلت من الشرفة، فلم أجد يوسف على الكرسي الهزاز، ولكن وجدت حقيبته المدرسية في مكانها، أين ذهب يوسف، الأبيضاني، الذي شعر كيرلي.. وحلو؟ ربما ذهب إلي المدرسة؟ ربما. 

على الكنبة، بنتٌ جميلة تبكي وهي تقول إنها تعرف إمها من شعرها، لماذا تبكي؟ ربما ذهبت أمها إلي مشوار وتأخرت؟ ستأتي أمك يا صغيرتي، لا تخافي، لا تبكي. سأختار لك كارتونًا مسليًا تشاهدينه حتى تأتي أمك لتأخذك. فتحت التلفزيون، فلم أجد إلا قناة الأخبار تبث أخبارًا كئيبة، مُظلمة، ظالمة، مُجحفة. التفتت لصديقتي الجميلة التي لم أعد أسمع بكاءها، فلم أجدها. اختفت وهي تبحث عن شعر أمها.

دخلت المطبخ، كانت أم إلى جوارها كومة أرغفة، تحشوها وتضعها في أكياس بلاستيكية. نظرت لها في استحياء حتى لا أزعجها، فقالت: معلش، بخلص حالًا، الأولاد ماتوا بدون ما ياكلوا. سبقوني، باحضرلهم الفطور وحاطلعلهم الجنة. ثم أشارت على كيس انتهت منه، وقالت لي هذا لك. أخذته. 

انسحبت من المطبخ ببطء وأنا أحمل فطوري، أتسلل إلى الصالة في حذر وكأنما أخاف أن أزعج أحدًا، فتحت الشُرفة، فوجدتهم جميعًا في الشارع هائمين.. وكنت بينهم.

 
علي
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٣

الاثنين، 23 أكتوبر 2023

ليطمئن قلبي…

حق أصيل لكل مؤمن ومُحِب لربنا إنه يسأل عن وجوده، خصوصًا في الأوقات الصعبة. مزيج جميل ومُقلق بين العجز، والخيبة، والرجاء، والوجع، والأمل، والخوف، واليقين في قدرته على تغيير الحال المايل بكلمة كُن.. فيكون.


أعتقد إن هذا الشك المؤلم الجميل كثيرًا ما يأتي من شدة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والسَخَط على الظرف الصعب القاسي، والاعتراف بإنه خرج من حيز قدرة البشر الضعفاء على التغيير، ولم يبقى الأمل إلا في الإنقاذ الإلهي. ماهو طالما العالم مالوش كبير، يبقى كبيره مين؟ ربنا.. انقذنا يا الله.  


مع الأسف الشديد اتحرمنا من حقنا الأصيل والبديهي في السؤال، والشك، مع إن سيدنا إبراهيم عملها قبلنا وقال لربنا (ليطمئن قلبي). “رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي” - صدق الله العظيم.


يعني سيدنا إبراهيم عليه السلام قال لربنا أرني كيف تحيي الموتى (ليطمئن قلبه)، وأنا العبد الفقير لله المغلوب على أمره في ٢٠٢٣، ماليش الحق اقول لربنا انقذنا من الظلم (ليطمئن قلبي)؟ ده أنا مش طمعان اشوف الأموات يبقوا إحياء ليطمئن قلبي، أنا بس عايز المعجزة اللي تخلي الأحياء مايبقوش موتى بالظلم والقهر ده.. أنا مش عايز اشوف أمهات مكلومة أو في الكفن.. ولا أطفال مقهورة أو في الكفن.. مش عايز اشوف أكفان صغيرة.. ولا أكفان كبيرة.. ليطمئن قلبي.. ممكن؟

لو ماغضبتش من الدنيا دلوقتي، هاتغضب امتى؟ لو ماخوفتش دلوقتي، حتخاف امتى؟ ماشكتش دلوقتي، حتشُك امتى؟ لو مالجأتش لربنا دلوقتي وآمنت بإن (وما النصر من إلا من عند الله) -سورة الأنفال-، وقبلها على طول "لتطمئن به قلوبكم".. برضه. (وما جعله الله إلا بُشرى ولتطمئن به قلوبكم.. وما النصر إلا من عند الله) - صدق الله العظيم. 


ربنا مش هايطمننا إلا لو خوفنا، واحنا مش هنخاف إلا لو ماشكيناش في احتمالية النجاة، والشك، يؤدي للسؤال، يؤتيك الله الردود من حيث لا تدري.. ليطمئن قلبك. 


كم الظلم والقهر في العالم حاليًا أكبر من قدرتي على الاستيعاب.. فين المعجزات؟ يعني إيه شايفين الظلم بيحصل عيني عينك قدامنا بمباركة العالم أجمع.. فين المعجزات؟ من بداية الحرب وأنا مبسألش ده بالكلام، بس بابُص للسما وانا متأكد إن ربنا عارف سؤالي.. وأكيد أنا مش الوحيد اللي بيسأل نفس السؤال.


ثم.. شكيت في تفسيري للتدخل الإلهي، وللمعجزة التي أنتظرها.. هو أنا مستني إيه؟ 


شعب مطحون بقاله ١٠٠ سنة، من كُتر البهدلة واعتيادهم التكفين والتغسيل والدفن بقوا يخلفوا كتير عشان اللي بيروح أكتر. الاستيطان فضل يزنقهم يزنقهم يزنقهم لغاية ما حشرهم في رُكناية اسمها (غزة)، مساحة ٣٦٥ كيلومتر مربع (يعني قد مدينة نصر)، عايش فيها فوق ال ٢ مليون نسمة، يعني أكبر مُعدل تكدس في العالم. بلد مفيهاش مطار -اتقصف-، محاصرة من كل النواحي، مبتدخلش نسمة هوا غير بموافقة المُحتل. الشريط الصغير ده، حارب إسرائيل المدعومة من العالم أجمع، في ٢٠٠٨ و ٢٠٠٩ و ٢٠١٢ و ٢٠١٤ ، و ٢٠٢١ ، و ٢٠٢٢ ، ودلوقتي في ٢٠٢٣.. وهي المرة الأشرس. ده غير المناوشات والخسائر الموجودة دائمًا لغاية ما اعتادوها.


بلد قايمة على مقاومة غير نظامية، بتواجه جيوش كاملة بطيارات ودبابات، بشيء أشبه بال(بومب والصواريخ). وحتى بالإمكانيات المعدومة دي، بتواجه نظام القبة الحديدية اللي بيدعي المحتل إنه أقوى نظا حماية للمجال الجوي في العالم من أي هجوم. ومع ذلك.. البلد دي لسة موجودة، وصامدة، وأهلها لسة موجودين.. ماخلصوش.


أنا مش هاقول لك ازاي قاموا بعد كل حرب من اللي فاتوا وبنوا بلدهم تاني، خصوصًا إن في كل مرة الاستهداف بيبقى للبنية التحتية بالذات، وده لإن العدو جبان.. شديد الجُبن والخِسَّة. أنا هسأل بس على مدار الاسبوعين اللي فاتوا دول، هما ازاي لسة موجودين؟ الضرب مابيوقفش لحظة على الهوا، مفيش مياه ولا أكل ولا كهرباء ولا بنزين ولا أدوية، فوق ٧٠٪ من سكان البلد بيوتهم راحت، فوق ال٤٥٠٠ بني آدم راحوا حتى الآن (مع الأسف والألم في ازدياد)، وفوق ال ١٣ ألف مُصاب.. البلد بقت ركام.. والعالم كله موافق وراضي وبيسقف.. وبيمول كمان.. والداعمين اللي زيي وزي حضراتكم أقصى ما نقدر نعمله هو إننا نتكلم عنهم في العلن.. ونعيط في السر. 

البلد دي ازاي موجودة لغاية دلوقتي؟ وازاي بتطلع لها شمس كل يوم؟ وازاي بييجي عليها بكرة؟ ازاي بيتحملوا كل الخذلان والظلم ده في رضا، وقوة وشموخ في نفس الوقت؟


البلد دي وأهلها هما المُعجزة اللي خلقها الله.. وكفى بهما مُعجزة.

المُعجزة أتت في فلسطين، المعجزة غزة.. لكن احنا اللي محتاجين معجزة عشان نقدر نوقف عياط.







الجمعة، 25 أغسطس 2023

مثلك يا حجر

أُحِب الأشياء القديمة، أحترمها وأُقدرها وأنحني إجلالًا لها. رائحة بيت جدتي بالإسكندرية، خليط من رائحة الباركيه والموكيت وعطرها الذي تستخدمه يوميًا، وروائح أُخرى حاولت مرارًا أن أميزها ولم أنجح. كل ما أعرفه أن جدتي رحلت، ولم ترحل رائحتها.
 
ورثت عن أبي مكتبة مُمتلئة عن آخرها بكتبٍ قديمة اصفرت أوراقها، ألجأ إليها كلما حزنت، لذا ألجأ إليها كثيرًا. دأب أبي في تكوين مكتبته، وقضى أيامًا في فهرستها وكتابة العناوين وأسماء المؤلفين بخطه الجميل على كعب كل كتاب ليسهل علينا التمييز والاختيار. ورثت عن أبي إدمان اقتناء الكتب، والذي ليس له علاقة بشغفي بالقراءة، هذا شيء وذلك شيء آخر. أقتني الكتب لأضمن لنفسي رفقاء دائمين لن يتركوني مهما طال الزمان. كنزٌ أورثه لأولادي وأحفادي يحمي عقولهم من الصدأ. أوراق تصفر بمرور الزمن، وتزداد رائحتها حلاوة.
 
اعتدت أن أحترم الكبير، ليس لإنجازٍ شخصي له، ولكن كقاعدة عامة واجبة التنفيذ ما استطعت إليها سبيلا، ومادام الكبير يحترم نفسه. لم يكن له دورًا في مجيئه للدنيا في تاريخ مُعين، ولم يَكُن لي يَد في أن آتي بعده. كل ما في الأمر أنه قضى وقتًا أطول مني في هذه الدنيا، وهو في ذاته أمر يستحق الشفقة والطبطبة وتطييب الخاطر.
 
أقف مشدوهًا فاتحًا فاهي عن آخره منبهرًا أمام الآثار والمعابد ودور العبادة القديمة. أكَم من أحداث تشيب لها الرؤوس مرت على هذا العالم ومازالوا محافظين على هيئتهم؟ فقد أبو الهول أنفه ومازال حيًا بالجيزة في ظاهرة خارقة للطبيعة، دلالتها أنك بقائك حيًا في مصر شريطة فقدانك مناخيرك من كثرة الشخر. صمدت أهرامات الجيزة ولم تهتز بتوالي الأنظمة والحكومات والظروف بشكل عام، لم يجرؤ أحد على هدمها.. حتى الآن. 
 
تحمل حجر رشيد غُربة في بريطانيا منذ ١٨٠١ ولم يطلب من إدارة المتحف البريطاني أجازة واحدة لمصر. صحيح أنه لم يرسل أي حوالات لمصر بالعملة الصعبة لدعم الاقتصاد، لكن لا عَجَب. حافظ الحجر على مصريته ولم يأخذ الجنسية البريطانية، ظل ماكثًا بالقسم المصري حاملًا اسم البلد التي لم تصونه وتحافظ عليه. اكتشف الضابط المهندس الفرنسي فرنسواه بوشار حجر رشيد في ١٧٩٩، فك رموزه شامبليون ١٨٢٢، ثم رقد رشيد في مثواه الأخير بالمتحف البريطاني حيث يطوف الناس حوله منبهرين من كل جانب. أما نحن فاكتفينا بدور عاطف في فيلم الناظر: شكرًا. هاجر حجر رشيد من بلده التي لم تفهم طلاسمه، وارتمى في أحضان الأوربيون الذين فكوا رموزه.
 
دخلت القسم المصري بالمتحف البريطاني، وابتسمت في فخرٍ من حفاوة الزائرين بآثار بلدي. وقفت أمام حجر رشيد، نظرت إليه، غلبتني رغبة عارمة في البكاء، فاستأذنت من عيني دمعة في الانصراف، فتركتها. نظرت لرشيد وأخبرته بأني مثله لم تفهمني مصر.. ولم أفهمها.. ولكني أُحبها.. تمامًا مثلك يا حجر.. تمامًا مثلك يا حجر.
 
أعترف بأن مصر عَصيَّة على فهمي. بلدٌ شديدة الجمال والقُبح في آنٍ واحد. شعبٌ ليس له كتالوج، تارة يجعلني فخورًا وتارتين يجعل مفقوعًا. قرأت في أنظمة السياسة والاقتصاد، ولم أقتنع لمصر بتصنيفٍ واحد على مر التاريخ. بلد غلطة الكمبيوتر، وتعاشب شاي، ومع احترامي لحضرتك، وبدون قطع كلامك. بلد الفنانين والشعراء والكتاب والعباقرة والضلالية والمفتريين والأمين أشرف والبصمجية الذين لا يفرقون الألِف من كوز الذرة. بلد لم تفهمني، ولم أفهمها، ولكننا قررنا ألا ننفصل عشان الأولاد. بلد إذا أردت أن تنفصل عنها، لن تنفصل عنك ولو أخذت ١٠٠ جنسية أُخرى. مصر وحمة، طالعالنا كلنا، ومش هاتروح، ولو روحنا لأشطر دكتور تجميل عشان يشيلها، هتسيب علامة. 

لم أفهم مصر، ولم تفهمني. صُنتها، ولم تصنِّي تمامًا كما لم تَصُن الحجر. أنا مثلك يا حجر.



الاثنين، 31 يوليو 2023

بين هذا وذاك

 يطلع موظف السفارة على رقمي القومي وباقي المستندات، يتنهد بنفاد صبر ثم يدفس يده في مظروف يحوي مجموعة جوازات، يلتقط باسبوري ويمنحني إياه بابتسامة باردة كغرفة بلا سقف فوق السطوح في يناير يسكنها أسرة بسيطة ربها يعمل ثلاث شغلانات. ابتسامة حارة كعناق الأم بعد سفر طويل. ابتسامة مؤسفة كحال المشردين وأطفال الشوارع، حالمة كحلم أحدهم بأن يصبح طبيبًا ليعالج المُحتاجين ويزوج إخوته البنات اللواتي في رقبته. ابتسامة تربت على كتفي وتتمنى الخير، ثم سرعان ما تُعاتب وتغبطني. ابتسامة روتينية مُعتادة صارت جزءًا من وظيفته التي يمنح بمقتضاها عشرات التأشيرات يوميًا للبشر الفَرحين بما أتاهم الله من فضله، تمامًا كطبيب النساء والتوليد وهو يخبر الأزواج بالسر المُفرح وراء انقطاع الدورة الشهرية، "المدام حامل"، لينتظرا حُكم بالمؤبد قادمٌ لا محالة بعد بضعة أشهر، ويدخلا منذ حينها في الدورة الأكبر الذي لن يفيق أحدهما منها إلا وهو في طابور المعاشات، يسأل: هو الوقت ده كله فات امتى؟ يفيق منها وحيدًا، فلم تُمهل الحياة شريكه أن يُكمل الرحلة معه، لم تُمهله أن يصل إلى الستين ويتقاعد، مات وتُراب الشارع على قدميه، مات قبل المعاش.
ابتسامة مُملة كزواج مستمر عشان الأولاد، مُعاتبة كعتاب الأحباب، كارهة ككره سيدنا الحسين للظلم، مُتسامحة كنظرته الأخيرة إلى السماء قبل أن تصعد روحه إلى السماء في كربلاء، راضية كرضا الإمام الحسين عن نفسه حينما انتصر للحق وإن قبحت العواقب. ابتسامة مُضطربة رغم اعتيادها وتكرارها، تزداد اضطرابًا وريبة كلما ابتسمها قرابة نهاية الشهر واقتراب موعد سداد إيجار البيت، وتقل حدتها بعد نزول المرتب في أول كل الشهر. ابتسامة مُتفهمة لخصوصية اللحظة وما تعنيه لشاب مصري يترك أهله ويسافر للدراسة. ابتسامة سريعة ومُتعجلة لأن الطابور طويل والناس منتظرون بالخارج في عز الحر. ابتسامة ملؤها الفَخر كأنما قد منحني التأشيرة هو بنفسه بعد أن انتزعها لي من فم ملكة بريطانيا انتزاعًا. ابتسامة حلوة كالشاي الزيادة الذي يشربه عاملو النقاشة في استراحتهم. ابتسامة مُرة كقهوة سادة وُضعت أمامك في سرادق العزاء. 
ابتسم، وقال: مبروك.
ابتسمت بدوري. أدرت وجهي، واستحال الجو شديد الحرارة صقيعًا كالرصاص قطع عني الإحساس بأطرافي، ثم ينفجر بداخلي بُركانًا يذيب الثلج الذي هطل عليَّ من السماء. منذ يومها لم تستقر درجات الحرارة بداخلي، وصرت بين راحتي يدي الدنيا تقلبني كما شاءت، بين الضحك والبكاء، بين الأمل والخيبة، بين الإصرار وفقدان الأمل، بين الإحساس بالعقل والتفكير بالقلب.
تلهو بي الدنيا بين هذا وذاك، تتلقفني يد وتقذفني لأخرى على النقيض، ويستمر الحال حتى أسقط من كل الأيادي، وأسكن. 
إلى حينها.. أَحلُم.

الأربعاء، 25 يناير 2023

حديث الأمل والخيبة

٢٥ يناير ٢٠٢٣

أنا فخورٌ اليوم. فخورٌ بنفسي، وبكل من هم مثلي.

تعالَ أنت وعقلك هُنا لحظة، تعالَ ولا تذهب بعيدًا، الموضوع وما فيه يا صديقي العزيز هو أني فخورٌ بنفسي فقط لأني صحوت مبكرًا في موعدي وانتزعت جسدي انتزاعًا من السرير الذي يثبتني فيه الاكتئاب يوميًا بمسامير. أنا أيضًا حضرت وجبة فطور صحية، بل أكلتها، وأعددت قهوة لنفسي، وشربتها أيضًا. أزيدك من الشعر بيتًا؟ تمكنت من الخروج اليوم من البيت وها أنا أكتب لك الآن من خارج المنزل. 

قُل لي بالله عليك، لمَ أفخر بشيء آخر أو أحزن على شيء أعَم؟ يعني، ومع احترامي لي ولك، لو لم نشارك وقتها هل كان سيفتقدنا أحد؟ كانوا أطلقوا عليها مليونية إلا فلانًا مثلًا؟ طب هل غيرنا شيئًا في مسار الأمور ومسئولين عما آلت إليه؟ لست نادمًا على شيء، ولا فخورًا بشيء، أنا فقط أدركت حجمي الحقيقي. أنا جسدٌ يحوي أعضاءً بعضها يعمل بكفاءة والبعض الآخر لا. أنا قلب أنهك صاحبه ولم يغير العالم، سيتوقف عن العمل عاجلًا أم آجلًا لو وجه القناص عليَّ رصاصة أو لما يأذن الله تعالى بكل بساطة. 

الإيمان بالقدرة الفردية على التغيير على حلاوته لكن مثير للشفقة، والإيمان المُطلق بالقدرة الجماعية على التغيير أيضًا محل جدال. الكثرة لا تغلب الشجاعة لنكن واضحين، بل الجُبن غالبًا ما يغلب الكثرة الشجاعة. هل هناك أشجع من الفلسطينيين الذين يواجهون الاحتلال والموت بصدور عارية؟ وهل هناك أخَس وأجبن من الجُندي المُحتل الذي يدكهم دكًا بضغطة زر مختبئًا في طائرته أو مدفعه المُصَفَّح؟

المُعادَلَة ضبابية وغير واضحة، والأكيد أن أطرافها ليسوا الكثرة والشجاعة فحسب، بل لست متأكدًا إن كانا من أطرافها أصلًا. 

هل نحن مؤثرين في شيء حتى على الصعيد الشخصي؟ طبعًا الحديث عما إذا كان الإنسان مُسيَّرًا أم مُخَيَّرًا لا ينتهي، لكن لو كنا مخيرين فسوف أعلن اختياري واضحًا وصريحًا لنفسي وللعالم، سوف أخلي مسؤوليتي من كل هذا العبث. اخترت أن يصبح العالم مكانًا أجمل بلا كراهية ولا ظلم، بلا فقر ولا جوع، بلا كراهية ولا إقصاء، بلا خوف ولا فزع. اخترت عالمًا لا يعاقب الحالم على حلمه، ولا الفقير على فقره، ولا المريض على مرضه. اخترت عالمًا أكثر رفقًا بالضعفاء وأصحاب الحظ العسر. أما لو كنت مِسيِّرًا، وهو الأقرب، فقد تركت نفسي للأيام تفعل بي ما تشاء، لكني لن أتوقف عن محاولة القيام في الصباح من السرير، وتحضير فطور صحي، وشرب القهوة لعلي أهزم الاكتئاب يومًا ما مُسيرًا كنت أو مخيرًا.




الجمعة، 18 نوفمبر 2022

أوردر الإنسان الحجري من ماكدونالدز

 افتتحت الجلسة مع المعالج النفسي وأنا أخبره عن شكوكي في أدواته برُمَّتها. يا عزيزي أنت فقط تحاول أن تُجمل الواقع، وما بيننا هو "بيزنيس" في الأول والآخر. مع احترامي لعلمك الغزير، أنا أدفع لك مبلغًا باهظًا من المال لأجلس معك ٤٥ دقيقة بالتمام والكمال، لا تزيد عن ذلك دقيقة، وأنت تقدم لي في المقابل خدمة. أنا واحد من ضمن مجموعة كبيرة من ال"كلاينتس" الذين يأتون إليك، وكلمة كلاينتس (أي عملاء) هو الاصطلاح الجديد الذي أصبحوا يطلقونه على من يبتغون العلاج النفسي، وهذا ربما لأن كلمة (مرضى) مُحرجة بعض الشيء، وربما أيضًا لأننا جميعًا أصبحنا مرضى نفسيين، فأحببوا أن يُجَمِّلوا الأمر قليلًا. أحكو لك في ٤٥ دقيقة معاناة أعيشها ٢٤ ساعة. تسمعها، تدَوِّن ملاحظاتك في دفتر يحوي عشرات الملاحظات عن أشخاص آخرين، ثم تنتهي الجلسة ويذهب كل منا لحاله. في الأول والأخير، سعر الدولار ارتفع علينا نحن الاثنين، وكلانا سوف يدفع كل ما يملك لرادارات التجمع الخامس. أنت لن تُغير الواقع، أنت فقط تأخذ نصف مرتبي الشهري لأتحدث معك قليلًا.

أقضي معظم وقتي أبحث عن سلامي النفسي، إبرة في كومة قش. لم أجد سلامي النفسي بالشوكولاتة الداكنة بالبندق رغم ما تغمرني به من سعادة لحظية. ترفع لي مستويات الدوبامين بمخي، لكنها ترفع لي السكر بالدم أيضًا وتعرضني للسمنة. لم أجد سلامي النفسي في طلبي المعتاد من ماكدونالدز بالثانية صباحًا، بيج تيستي كومبو لارچ، هذه الوجبة لا تداوي جراحي رغم حلاوتها، فقط تشعرني بالتخمة وتصيبني بالحموضة.

وجدتني مؤخرًا أنسى أشياءً بديهية؛ محفظتي، مفاتيحي، هاتفي، ثم تطور الأمر حتى أصبحت أنسى العناصر الأساسية في قاعدة تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات من أجل البقاء الإنساني، أنسى النوم والأكل. عندما تذكرت الأكل ذات مرة، اكتشفت شيئًا يدلني على بعض من السلام النفسي.

لي وجبة واحدة في اليوم، آكلها مساءً. أرجو ألا تعاتبني على ذلك وتنصحني بأكل ثلاث وجبات، لأني أعلم ذلك جيدًا، وصدقني لن تضيف نصيحتك لي شيئًا، أنا آسف. 

عادةً ما أختار السلطة، ألوانها زاهية، مُغذية، تسمح لي بأكل كمية كبيرة بلا خوف من سعرات حرارية زائدة، والأهم من ذلك أن تحضيرها، رغم وقته الطويل، لكنه يمنحني بعضًا من السلام النفسي. هي أيضًا مُشبعة جدًا، وهي ليست مُشبعة فقط من أجل قيمتها الغذائية، لكن المشقة ذاتها في الوصول لطبق سلطة متكامل تساعدني على الشبع.

يشبع تحضير السلطة غرائزي الإنساني، غريزتنا كبشر أن نشقى من أجل الوصول، ويرتبط معدل شقائنا طرديًا مع ما نجنيه من مكافأة، تشقى لتدخل الجنة، تشقى لتنجح، تشقى لتتزوج حبيبتك، وهكذا. كان الإنسان بالعصر الحجري يسير مئات الأميال ليحصل على غذائه، يجد فريسة هنا أو هناك يصطادها بحجر أو عود خشب أو حتى عظمة احتفظ بها من الفريسة السابقة. لم يجد الإنسان الحجري غذائه بسهولة، لم يداوي الإنسان الحجري جراحه بأوردر بيج تيستي كومبو لارچ من ماكدونالدز في الثانية صباحًا أو فطيرة مشكل جبن من بيتزا السلطان. كل كائن له غريزته، انظر إلى قطتك التي تربيها بالبيت، لها غريزة الانقضاض، تشبعها عندما تلاعبها، تجري وتنقض على ألعابها، أو عندما ترمي لها كرة. أنا أيضًا أشبع غريزتي الإنسانية بتحضير السَلَطة، لذلك اعتمدت السَلَطة علاجًا.. العلاج بالسَلَطة.

أتغيب عن جلستي الأخيرة مع المعالج النفسي، تتصل بي السكرتيرة لتسألني عن غيابي، فأخبرها بما حدث: "معلش أصل وقتها كنت بعمل سَلَطة"، ثم نحدد ميعادًا آخرًا. لا أدري إن كان لردي عليها علاقة بما أخبرني به الطبيب بالجلسة التالية، فقد أجرى تعديلًا في أدويتي وأضاف على الروشتة مضادًا للذُهان. قلت له متعجبًا: ذُهان إيه يا دكتور… ده الموضوع كله يتحل بخسايتين واتنين كيلو طماطم.





 

 



الاثنين، 14 نوفمبر 2022

فوتكم بعافية

بمناسبة النهاردة اليوم العالمي للسكر، حابب أذكرني وإياكم إن العبد الفقير لله كاتب هذه الكلمات، وغيره من مرضى السكر من النوع الأول اللي بياخدوا إنسولين، إن لو كنا قبل دلوقتي ب١٠٠ سنة بس، كان زماني ميت من زمان. قبل اكتشاف الإنسولين في ١٩٢١ كان لما بيكتشفوا مرض السكر من النوع الأول عند حد، بيقطعوا عنه الأكل تمامًا ويعيش على نظام التقشف التام عشان يمدوا في عمره كام أسبوع بس، وبيفضل يفقد وزنه فيهم ويخس يخس يخس.. لغاية ما يموت.
القصة دي في ذاتها على قد صعوبتها، لكن مخلياني حاسس إن حياتي بونَص، نعمة ربنا قرر يديهالي بعد ما كان مكتوب تتشال مني. فرغم الأيام الوَحل اللي الواحد عايشها دي، بحب أفكر نفسي كل شوية باليومين البونَص اللي ربنا اداهملي هدية اقضيهم في الدنيا معاكم وعلى قلبكم، ولما بفكر نفسي بده بحس بمسؤولية وخشى من ربنا إني أسيء استخدام نعمته عليا.
صحيح ربنا كتب لي ولمرضى السكر عُمر جديد، لكن مهم نعرف إن السكر أكتر مرض من الأمراض المنتشرة مظلوم ومنتشر عنه خرافات، رغم إن مصابينه كتير جدًا. مرضى السكر من النوع الأول بيتنَكِّل بيهم يوميًا في مفرمة الحياة، من حيث القدرات الجسدية المحدودة بسبب ذبذبة مستويات السكر في الدم، الجوع والزيادة في الوزن اللي بيسببهم الإنسولين، الأعباء النفسية بسبب إلزامهم بمتابعة نفسهم لحظة بلاحظة من حيث الجرعات والقياسات المتتالية، التجربة الكابوسية لهبوط السكر في الدم، التهديد الدائم باحتمالية الدخول في غيبوبة لو حصل هبوط شديد بدون ما يتلحق، التكاليف المادية المهولة اللي على عاتقهم لتوفير الإنسولين وشرايط التحاليل والأدوية، فطبعًا تخيل غلو الأسعار والمعيشة اللي كلنا بنلطم منه.. ضيف عليهم بقى ٢٠٠٠ جنيه حقن أنسولين شهريًا، ده كده لسة متكلمناش في تكاليف أجهزة القياس ولا الإبر.
لغاية ما ييجي يوم قريب جدًا أحكي باستفاضة عن رحلتي مع السكر، ركز في دايرتك على حد تعرفه عنده سكر، افتكر الدنيا بيه عامل ازاي ومن غيره كانت ممكن تبقى عاملة ازاي، وروح طبطب عليه في صمت تقديرًا للمعاناة اللي بيعيشها كل يوم وماحدش عارف عنها حاجة.
فوتكم بعافية.