الاثنين، 31 يوليو 2023

بين هذا وذاك

 يطلع موظف السفارة على رقمي القومي وباقي المستندات، يتنهد بنفاد صبر ثم يدفس يده في مظروف يحوي مجموعة جوازات، يلتقط باسبوري ويمنحني إياه بابتسامة باردة كغرفة بلا سقف فوق السطوح في يناير يسكنها أسرة بسيطة ربها يعمل ثلاث شغلانات. ابتسامة حارة كعناق الأم بعد سفر طويل. ابتسامة مؤسفة كحال المشردين وأطفال الشوارع، حالمة كحلم أحدهم بأن يصبح طبيبًا ليعالج المُحتاجين ويزوج إخوته البنات اللواتي في رقبته. ابتسامة تربت على كتفي وتتمنى الخير، ثم سرعان ما تُعاتب وتغبطني. ابتسامة روتينية مُعتادة صارت جزءًا من وظيفته التي يمنح بمقتضاها عشرات التأشيرات يوميًا للبشر الفَرحين بما أتاهم الله من فضله، تمامًا كطبيب النساء والتوليد وهو يخبر الأزواج بالسر المُفرح وراء انقطاع الدورة الشهرية، "المدام حامل"، لينتظرا حُكم بالمؤبد قادمٌ لا محالة بعد بضعة أشهر، ويدخلا منذ حينها في الدورة الأكبر الذي لن يفيق أحدهما منها إلا وهو في طابور المعاشات، يسأل: هو الوقت ده كله فات امتى؟ يفيق منها وحيدًا، فلم تُمهل الحياة شريكه أن يُكمل الرحلة معه، لم تُمهله أن يصل إلى الستين ويتقاعد، مات وتُراب الشارع على قدميه، مات قبل المعاش.
ابتسامة مُملة كزواج مستمر عشان الأولاد، مُعاتبة كعتاب الأحباب، كارهة ككره سيدنا الحسين للظلم، مُتسامحة كنظرته الأخيرة إلى السماء قبل أن تصعد روحه إلى السماء في كربلاء، راضية كرضا الإمام الحسين عن نفسه حينما انتصر للحق وإن قبحت العواقب. ابتسامة مُضطربة رغم اعتيادها وتكرارها، تزداد اضطرابًا وريبة كلما ابتسمها قرابة نهاية الشهر واقتراب موعد سداد إيجار البيت، وتقل حدتها بعد نزول المرتب في أول كل الشهر. ابتسامة مُتفهمة لخصوصية اللحظة وما تعنيه لشاب مصري يترك أهله ويسافر للدراسة. ابتسامة سريعة ومُتعجلة لأن الطابور طويل والناس منتظرون بالخارج في عز الحر. ابتسامة ملؤها الفَخر كأنما قد منحني التأشيرة هو بنفسه بعد أن انتزعها لي من فم ملكة بريطانيا انتزاعًا. ابتسامة حلوة كالشاي الزيادة الذي يشربه عاملو النقاشة في استراحتهم. ابتسامة مُرة كقهوة سادة وُضعت أمامك في سرادق العزاء. 
ابتسم، وقال: مبروك.
ابتسمت بدوري. أدرت وجهي، واستحال الجو شديد الحرارة صقيعًا كالرصاص قطع عني الإحساس بأطرافي، ثم ينفجر بداخلي بُركانًا يذيب الثلج الذي هطل عليَّ من السماء. منذ يومها لم تستقر درجات الحرارة بداخلي، وصرت بين راحتي يدي الدنيا تقلبني كما شاءت، بين الضحك والبكاء، بين الأمل والخيبة، بين الإصرار وفقدان الأمل، بين الإحساس بالعقل والتفكير بالقلب.
تلهو بي الدنيا بين هذا وذاك، تتلقفني يد وتقذفني لأخرى على النقيض، ويستمر الحال حتى أسقط من كل الأيادي، وأسكن. 
إلى حينها.. أَحلُم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق