الخميس، 26 أكتوبر 2023

هذا الصباح

صحَوت من نومي مفزوعًا، صوت رهيب عالٍ وغير مألوف. انفجار يرُج سريري رجًا. تسقط اللوحات من الحوائط، وتقفز الأكواب الزجاجية من النيش، ويتبعثر كل شيء. توقعت انهيار البناية حالًا، الآن، أو بعد لحظة واحدة. لكنها لم تسقط، فاندهشت، وضغطت على زر snooze. 

خمس دقائق أُخَر مرت بسرعة، جاء الصوت ذاته، سأفقد قدرتي على السمع من شدته. ربما قصف جديد. فتحت عيني ببطء، وجدتني في غرفتي، على سريري، وكان ذلك صوت المنبه الذي أسمعه كل يوم منذ سنين.

أشياءٌ ثقيلة تُجثم على صدري، ربما انهارت البناية وسقطت معها، وهذا هو الحجار والركام. أحاول التحرك، أو التَمَلمُل، فلم أجد مساحة ولا سنتيمترًا واحدًا. أنا تحت مبنى كامل، بأعمدته، بخرساناته، وحجارته، وترابه، وسكانه، وذكراياته حتى، كلها جاثمة على صدري. أزحت الغطاء عني.. وقُمت.

على كرسيِّ الهزاز الذي أشرب قهوتي كل صباح وأنا جالسٌ عليه أمام الشباك، يجلس ولدٌ صغيرٌ شديد الجمال، وإلى جواره حقيبته المدرسية. اسمه يوسف، شعره كيرلي، وأبيضاني.. وحلو.

على مكتبي كان يجلس صحفي، اسمه وائل الدحدوح يكتب مقدمة نشرته الإخبارية التي يقدمها على رأس الساعة، وأمامه الأولاد اللي بينتقموا مننا فيهم.. معلش. 

سقطت من الدحدوح دمعة رغمًا عنه، يأتيه رجلٌ من خلفه يربت على كتفه ويقول بنبرة ملؤها القوة التي تكاد من شدتها أن تكون قسوة، والحنان الذي من فرطه يكاد يكون ضعفًا: ماتعيطش يا زلمة.. هادي أرض جهاد أرض رباط.. كلنا فدا فلسطين. كلنا مشروع شهداء.  

 وقفت في الشُرفة. رجال إسعاف يحملون طفلًا يهتف: بنحبكم يا إسعاف.. بنحبكم يا إسعاف. على عذوبتها، لكن وقع الجملة على أذني كان غريبًا بعض الشيء، لماذا تحب الإسعاف يا حبيبي؟ الأطفال في سنك يحبون الكارتون.

أدرت رأسي فرأيت كهلًا أشيب الرأس واقفًا يشاور في قهر على بناية سكنية محطمة. أربعين سنة بشتغل عشان ابني الدار هادي، راحت.. فدا فلسطين. وبكى. إلى جواره كان رجلٌ يقول: والله لن نُرَحَّل ولن تكون نكبة ثانية.. سأبات الليلة في بيتي المُهَدَّم. 

دخلت من الشرفة، فلم أجد يوسف على الكرسي الهزاز، ولكن وجدت حقيبته المدرسية في مكانها، أين ذهب يوسف، الأبيضاني، الذي شعر كيرلي.. وحلو؟ ربما ذهب إلي المدرسة؟ ربما. 

على الكنبة، بنتٌ جميلة تبكي وهي تقول إنها تعرف إمها من شعرها، لماذا تبكي؟ ربما ذهبت أمها إلي مشوار وتأخرت؟ ستأتي أمك يا صغيرتي، لا تخافي، لا تبكي. سأختار لك كارتونًا مسليًا تشاهدينه حتى تأتي أمك لتأخذك. فتحت التلفزيون، فلم أجد إلا قناة الأخبار تبث أخبارًا كئيبة، مُظلمة، ظالمة، مُجحفة. التفتت لصديقتي الجميلة التي لم أعد أسمع بكاءها، فلم أجدها. اختفت وهي تبحث عن شعر أمها.

دخلت المطبخ، كانت أم إلى جوارها كومة أرغفة، تحشوها وتضعها في أكياس بلاستيكية. نظرت لها في استحياء حتى لا أزعجها، فقالت: معلش، بخلص حالًا، الأولاد ماتوا بدون ما ياكلوا. سبقوني، باحضرلهم الفطور وحاطلعلهم الجنة. ثم أشارت على كيس انتهت منه، وقالت لي هذا لك. أخذته. 

انسحبت من المطبخ ببطء وأنا أحمل فطوري، أتسلل إلى الصالة في حذر وكأنما أخاف أن أزعج أحدًا، فتحت الشُرفة، فوجدتهم جميعًا في الشارع هائمين.. وكنت بينهم.

 
علي
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٣

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق