الاثنين، 10 فبراير 2014

الحُكام لا يركبون المترو

دائماً ما تثير إعجابي فكرة "المواصلات".. ناس مدفوسون في صندوق كبير لا يشترك أيهم مع الآخر في أية شيء سوى في المكان الذي يقصده كُل منهم، وفي المترو –غالباً- لن تجد حتى تلك النقطة المشتركة بحُكم المحطات الثابتة. آلاف من البشر يترجلون في مساحات ضيقة -نسبة لعددهم- كل منهم يبتغي الوصول لعربة المترو "الصندوق الكبير". زحمة هائلة يصنعونها بأجسادهم المتكدسة حتى صاروا كأسراب النمل التي تجري بانتظام ونهم، كُل من الناس له حكاية مستقلة، له فيها ما يكفيه من كل شيء.
أما ساعات الذروة فلها تحكمات عجيبة، حيث يصل الزحام إلى مداه ويتصرف الكُل بعفوية لا مثيل لها لتزول الفروق بين هؤلاء الناس، أو لنقُل "النمل". فمثلاً.. قد تضطر بنتاً تتشح بخمار يصل إلى خصرها أن تجلس في أية مكان شاغر تجده حتى ولو بجانب رجل، وهو ما تراه هي عادةً خطيئة، ولكن الإجهاد اللعين قد أجبرها على فعل ذلك، وأيضاً محافظة على نفسها من التحرش وعيون الناس التي تشعر بأنها تخترقها، وبذلك تكون قد صنعت لنفسها قانوناً خاصاً.. حيث تجنبت خطأ جسيماً بخطأ بسيط، وطبعاً الخطأ شيء نسبي.
وفي هذا المسار العفوي.. يتملكني اليقين من وجود تفسير علمي لتلك العلاقة التي نشأت بيني -أنا راكب المترو الذي استحوذ بالكاد على مقعد- وبين ذلك الراكب الآخر الذي يقف منتصباً أمامي بينما أنا جالس. تلك العلاقة التي تتشكل بمجرد أن تلتقي عيني بعينه لدقائق قليلة تخللها الكثير من البحلقة.. فأشعر بمعاناته، مما يدفعني أن أغمزه وألكزه لأزاحم الناس وأدفعهم دفعاً عند مغادرتي حتى يستحوذ هو على المقعد من بعدي، وكأن راحته باتت قضيتي الشخصية التي يجب أن أُحارب من أجلها.. فقط، لأنني نظرت في عينه.
لم أكن أعلم شيئاً عن ذلك الشخص، بل وربما لو كُنا قد تقابلنا في موضع آخر لنشب بيننا شجار بسبب التزاحم –أيضاً- انتهى بتشويحة في الهواء وسُبة. أو ربما يكون لصاً من راكبي المترو كان سيدفس يده في جيبي ويستل ما يريد دون أن أشعر، بسبب الزحام –برضه-. أو ربما مثلياً يلتصق بي من الخلف إذا تقابلنا خارج عربة المترو فينتهي الأمر بصفعة على وجهه. وربما هو إنسان عادي كباقي خلق الله في الأرض، كان سيمر بجانبي مرور الكرام دون أن ألتفت له أو يلتفت لي.
المهم أن مهمتي لم تكن أن أُحفظ لهذا الراكب –أو غيره- راحته أو أن أهتم بها أصلاً، لكن ما حدث هو شيء تلقائي عفوي. وفي اللحظة هذه يلح عليَّ سؤال.. ماذا عن حاكم البلد والمترو وأسراب النمل هذه ؟ تُرى.. هل تلتقي عين الحاكم بأعين من يحكم أصلاً حتى يشعر بهم ؟ هل يرى الحاكم عندما يلقي خطاباً ردود أفعال الناس فعلاً ؟ "هكذا كنت أعتقد في طفولتي، أن من يظهرون على التلفيزيون يروننا كما نراهم نحن، ولهذا السبب لم أتجرأ باستبدال ملابسي يوماً أمام هؤلاء الغُرب"، أم أن ردود الأفعال تأتيه مُغلفة بدوسيهات وأختام شتى من المسئول المعنى بنقل نبض الشارع ؟ "كده وكده"، وكأن قصر الرئاسة في كوكب آخر، وكأنهم يسلبون من الحُكام حواسهم على باب القصر، فلا يقدرون على متابعة شيء بنفسهم !
هل يعرف الحاكم كُلاً من أفراد الشعب ؟ وبالطبع لا، لا أقصد تلك المعرفة التي طرقت باب تفكيرك الآن، فالمعرفة التي تقتصر على التقارير الأمنية "بلاش منها أحسن". أنا أقصد المشاكل والهموم والعيشة المُرة.
من المفترض أن الحاكم قبل أن يصير حاكماً كان محكوما، لذا فإنه عندما يظلم شعبه فذلك يعد شيئاً مفزعاً ومنافياً للمنطق، كيف تظلم أُناساً كنت أنت جزءاً منهم في يوم من الأيام ؟ فما بالكم بحاكم لم يكن محكوماً من قبل ؟
قَتَل المخلوع مُبارك المصريين وسجن الكثير خشية من حدوث ما حدث له في مثل هذا اليوم الذي تقرأ فيه يا عزيزي القارئ مقالي هذا (11فبراير – ذكرى خلع مبارك). وياللعجب، فالرئيس لم يكن يعلم أن الثورات تأتي من حيث لا يدري ! مما يجعله لا يستأهل أن يصبح رئيساً من الأساس، لأنه راسب في مادة التاريخ.
إذا أردت أن تجد تعريفاً للغباء، فانظر إلى تصرفات الطغاة بعد أن سحرتهم كراسي السُلطة مع شعوبهم التي لا يعرفون عنها شيئاً. والعجيب المُريب: أن أحداً منهم لا يستفيد من تجربة من سبقه، حيث فعلوا ما يفعل، وانتهوا.
وعلى صعيد آخر.. لا يصح أن نسمع أحداً من رجال الدولة يتحدث عن أية اهتمام بالفن، فهم لا ينصتون للفنانة نانسي عجرم، التي قالت: مفيش حاجة تيجي كده.

الأحد، 2 فبراير 2014

اكتملت لِحية البطريق

(1)
مال عليَّ بجذعه مقدماً لي يمناه الممسكة بعلبة سجائر مفتوحة بعد أن استل هو منها واحدة أسكنها زاوية فمه، سأل:
-          سيجارة ؟
يدي الاثنتين وضعتا تلقائياً على ياقة قميصي فخراً، ثم حشرجات مفتعلة.. وإجابة:
-          لا والله.. أنا أصلي مبادخنش.
الفخر هُنا كان لشيئين، واحد أنا سبب فيه.. وهو أنني نظيف تماماً "ذلك التعبير الذي أطلقه عليَّ صديق هندي لأنني لا أُدخن، مثله"، والآخر ليس لي يد فيه على الإطلاق، وهو أن الرجل توسم في احتمالية أن أكون مُدخناً، فشكلي بات لا يشي بطفولة، أي أنني كبرت.. وهو ما قد ينجيني من يدين تمتد فجأة على وجنتي مداعبة: "لمض قوي". وعلى صعيد آخر.. نفس الشيء، قد يكون أعلن عن دخولي في دوامة الحياة الحقيقية التي تبتلع من يقترب منها، ولا أدري إن كانت قد ابتلعتني فعلاً، أم أنها مازالت لم تفعل.. وأنني لم أرَ "حاجة" بعد !
(2)
شعرٌ ناعم خفيف سكن تحت السالفين، سرعان ما تسلل إلى الذقن بينما كان قد اكتمل الشارب فوق الشفاه العُليا، ورويداً رويداً صارت لحية مكتملة بشارب كالكبار، نادراً ما توجد عند أحد من سنه. وفجأة.. باتت تُطرح أسئلة لم يعتد عليها يوماً:
-          إيه الدقن دي؟ تدين وللا روشنة وللا نتانة؟
لتأتي الإجابة العفوية:
-          نتانة طبعاً !
(3)
ترك الرجل الكرسي الذي كان يجلس عليه أمام متجره، وانتصب واقفاً مبحلقاً في وجهه متأففاً:
-          لازم يعني تمشي من على الرصيف ؟
ثم تابع متمتماً لمن بجانبه راسماً بيده لحية وهمية في الهواء على وجهه:
-          تلاقيه منهم طبعاً.
(4)
كان الطفل يجري هلعاً على درج المبنى، صائحاً: "الراجل ده بدقن" مشيراً إليه، فلحقه وأمسك به محاولاً التفاوض في هذا الأمر، فكان رده: "ابعد عني.. انت أكيد معاك كنابيل مولوتوس كمان".
منذ أن حدث هذا الموقف.. وسؤالٌ عن ما يسكن في دماغ هذا الطفل يلح عليه، أو ما أسكنه الكبار دماغ هذا الطفل وما تربى عليه، وبالفعل وجد الإجابة، هو شيء يعف لسانه عن ذكره.. لكن الطفل يسميه –في لغته-: "بي بي".
(5)
لا أدري ما الدلالة السياسية لذلك الشعر الذي ينبت للرجال في الوجه ؟؟ يعني هل إذا أزال الإرهابي هذا الشعر من وجهه صار مواطناً صالحاً وسقط عنه ما اقترفه أو ما سيقترفه ؟؟
(6)
حالة تسيطر على الواحد، كتب عنها أُستاذنا مُريد البرغوثي في روايته "رأيت رام الله": غبش شامل يغلل ما أراه، وما أتوقعه، وما أتذكره.
بينما تتملكني هذه الحالة، والتي لها صلة وطيدة بالاكتئاب، الذي أغلبه تارة ويغلبني تارتين في مستنقع العبث الذي وجدت نفسي فيه، أجلس محاولاً الكتابة بعد انقطاع، وهموم ستة عشر عاماً "عُمري" على كتفيَّ، الذي قضيت قرابة نصفهم في اللعب مع المُكعبات، والحفاظ على توازني وأنا سائر كالبطريق إلى أن أصل إلى يدي أحد أبوي المفتوحتين على آخرهما مستقبلة إياي، والتظاهر بقراءة كتب ومجلات أمسكتها بالشقلوب، ومحاولة نطق الباء والميم "بابا وماما".. أما عن النصف الثاني، وها أنا فيه الآن، أُحاول أن أستكشف هذه الدنيا الفسيحة التي دلفتها فجأة من دون رغبة، بتفاصيلها الهائلة المزعجة..
وفجأة.. أجد أُستاذي بهاء جاهين يهمس في أُذني بما كتبه في مقدمة مجموعتي القصصية الأولى:
".. وأدعو الله أن ترحم السياسة قاتلة الرجال هذا الفتى الذي انغمس فيها قبل الأوان، فيزداد عوده صلابة دون أن تشوهه مرارة العجز والخيبة والقهر وألاعيب الحواة.."
علي هشام


الجمعة، 20 ديسمبر 2013

بين الأصابع والأحلام والأوميجا

منذ شهور قليلة، وقف على منصة اعتصام رابعة العدوية الشيخ جمال عبد الهادي، يقول للمعتصمين في الميكروفون أن الصالحين في المدينة المنورة قد رأوا سيدنا جبريل –عليه السلام- في المنام يصلي في مسجد رابعة العدوية. وهو ما لقى تصفيقاً وتهليلاً وتكبيراً هائلاً من المحتشدين مصحوباً بزغردة من النساء. وهنا يجب أن نسأل.. ما علاقة مسجد رابعة العدوية بالإخوان المسلمين سوى أنهم اعتصموا أمامه بإردتهم لا بإرادته ؟؟ هل استأجرت الجماعة بيت الله إيجاراً جديداً مثلاً ؟؟ وما علاقة محمد مرسي بـ"رابعة العدوية" أصلاً؟؟ هل بينه وبين "رابعة بنت اسماعيل العدوي" أي صلة قرابة من قريب أو من بعيد تبيح لمريديه أن يعتصموا في ميدان الست ؟؟ ما الذي يدل عليه هذا الحلم الذي أُخِذَ على محمل الجد ولماذا لا تكون "هلاوس" يا شيخ ؟؟ وهو ما لا يعيب الصالحين الذين يتحدثون عنهم -عادي، كلنا مابنتغطاش واحنا نايمين وبنهلوس-.. وهنا يُلِح عليَّ سؤال أخير: هو فيه في الزمن ده صالحين أصلاً يا شيخ عشان يبقى فيه رؤى ؟؟
وبعد أن فُضَّ هذا الاعتصام بعد ذلك بقوة غاشمة، وسقط العديد من المعتصمين..
سُرِّب إلينا منذ أيام قليلة تسجيلاً للفريق السيسي، فحواه أن السيسي يحكي للصحفي عن منامات أتت له منذ سنوات، واحدٌ منها كان يتحدث فيه إلى الرئيس الراحل أنور السادات الذي قال له "أنا كنت عارف إني هبقى رئيس جمهورية"، فرد عليه "و انا عارف إني هبقى رئيس جمهورية". وآخر كان يحمل فيه الفريق سيفاً مكتوباً عليه عبارة التوحيد بالأحمر. وآخر كان يرتدي فيه ساعة "أوميجا" عليها نجمة خضراء كبيرة. وهو ما يجعلنا نحذر سيادة الفريق بشدة من إمكانية أن تكون الساعة الأوميجا التي قضى الليل يفكر فيها "مضروبة" لأن الشركة لم تصدر موديلاً بهذه المواصفات.. ولا يصح أن يرتدي رجل البلاد الأول ساعة مضروبة. أما عن الحلم الأخير فكان لأحد قال لسيادته "هانديك اللي مديناهوش لحد".. وأنا أدعو سيادة الفريق أن يكلف الأجهزة الأمنية بملاحقة هذا المجرم الذي يتحدث بتلك الوقاحة مع سيادته، بدلاً من انشغالها بمداهمة المراكز الحقوقية اللي بتجيب حَق الغلابة من الديابة.
يالبؤس هذا الوطن، اختزل الصراع فيه بين ساعة أوميجا وأربعة أصابع، فوطن يحدد مصيره أحلام وهلاوس المتصارعين على السُلطة هو وطن بائس بامتياز. أخشى ما أخشاه، أن يحلم أحدهم بحلم كالذي يحلمه البالغون من الرجال، فتقضي "خارطة الطريق" على الشعب كله أن يقوم ليستحم جبراً في هذا البرد القارس !
أرى أن كل شيء في بلادنا قد انحط مستواه لأقصى درجة، بداية من أحلامنا نهاية بصراعنا. لقد وصلت أحلامنا إلى مداها في 25 يناير 2011، وها قد عُدنا لما قبل هذا التاريخ، لا حلم لك سوى الستر –الذي لا يأتي إلا من عند الله- وأن تبيت الليل في بيتك وعلى فراشك وليس مرميَّاً على أرض أحد الزنازين في هذا البرد معصوب الأعين مربوطة يديك خلف ظهرك، بعد أن اختطفك الأمن من بيتك وتعدى على زوجتك. -سلامٌ علاء عبد الفتاح-.
بحثت عن أحد في السُلطة أُهديه هذا المقال في مظروف مكتوب عليه "لقد انحطت آمالنا، سيادتك"، فلم أجد أحداً مُحدداً أُكلمه، اللهم إلا: مواطن وقف على حيله ست ساعات في طابور أنابيب البوتجاز، انتابته فرحة عاتية بعد أن حصل على واحدة أخيراً بأضعاف السعر الأصلي..
وأيضاً حارس مرمى منتخب تاهيتي الذي رفع يديه إلى السماء محتفلاً مع الجمهور بعد أن صد ركلة هزيلة من لاعب منتخب إسبانيا الذي هزمهم عـشـــرة/ صـــفــــــر.

الأحد، 15 ديسمبر 2013

شُهداء من كوكب بلوتو

حاولت أن أُقنع نفسي سلفاً بأننا –كشعب- سوف نتخلى عن طابع الخنوع الذي بات يتغلغل في جيناتنا التي نورثها للأجيال عندما يصبح لكل واحد ضحية من معارفه جنى عليها الحاكم، حيث تستثار المشاعر ويصحو الضمير وما إلى ذلك، لكن سرعان ما نَبَّهت نفسي بأن أحداً لم يسلم من شرور حُكام بلدنا البهية "المتعددين".. ومع ذلك، لم يقم الشعب حتى الآن بثورة حقيقية تعصف بجميع المفسدين.. تُرى، كم لتراً من الدم يحتاجه هذا الشعب كي يفيق ويثور على الجميع ؟
حتماً أنك إذا دخلت في مناقشة مع أحد في هذه الأيام الغبراء، ستسمع منه عن صديق إبن خالته الجندي المجند في الجيش المصري الذي استشهد ضحية تفجير إرهابي في سيناء، طبعاً هو لا يحكي عنه للتدليل عن فشل قادة الدولة المنشغلين في صراعات "البيضة وللا الفرخة" في حماية ذلك الجندي الغلبان الذي لم يلق منهم إلا مُتاجرة بدمائه لنيل مكاسب سياسية رخيصة، وإنما الحكاية ليزعم بأن هؤلاء المجهولون الذين قاموا بالعملية الإرهابية ينتمون لجماعة الإخوان لذلك فهم يستحقون إبادة جماعية كما فعلت السلطة النازية باليهود، وبالطبع لن تسمع تلك الحكاية إلا من مناصر للسلطة الحالية، فهو لا يرى من الشهداء إلا الجنود وضباط الشُرطة، مُعتبراً أن من تقتلهم السُلطة هُم من كوكب بلوتو.
أما إذا كان من تناقشه من جماعة الإخوان، فلابد أنك ستجده يحكي لك عن صديقه الذي استشهد بجانبه في رابعة العدوية برصاص الجيش، وحتماً هو الآخر لا يحكي عنه لذكر قادة الجماعة الذين أفسدوا وقتلوا أيضاً عندما اعتلوا سُدَّة الحُكم.. وعندما عُزلوا، صوروا للشباب أنها حرب على الإسلام ودين الله الحق. ولَم يَلق ذلك الشباب من قادته بعد مقتله إلا متاجرة بدمائه أملاً في مكاسب دنيوية بخسة، تجسدت تلك المتاجرة في مشهد جثامين المعتصمين المتراصة إلى جوار بعضها في المشرحة، مغطى كُل منها بصورة كبيرة للمعزول مُرسي.
بين الجُندي الذي قُتِل في سيناء على يد إرهابيين، والشاب الذي قَتَلته السُلطة في رابعة العدوية.. ثمة شُهداء مُحوا من ذاكرتنا. كارثة أن تجد شهيداً يهضم حق شهيد. تُرى هل يتذكر أحد الشهيد أحمد بسيوني –على سبيل المثال لا الحصر- الذي قتله حُسني مبارك في 28 يناير 2011 بالرصاص ثم دهسته عربة الأمن المركزي؟ لم يأت حقه بَعد.
هل يتذكر أحد شيخنا ومولانا عماد عفت والدكتور علاء عبد الهادي اللذين قُتلا برصاص قوات الجيش في مثل هذا الشهر منذ عامين (2011) في موقعة مجلس الوزراء التي لا يتذكرها أحد إلا بإحراق المجمع العلمي.. ها هو قَد رُمِّم وعاد كما كان، هل زاره أحد ؟ هل عاد إلينا الشيخ عماد وفي يده الدكتور علاء ؟ لم يأت حقهما بَعد.
هل يتذكر أحد شاباً اسمه خالد سعيد ؟ الذي قُتِلَ على يد جهاز شرطة منذ ثلاث سنوات لم يتغير عن وقتها ؟ هل يعلم أحد بأن القصاص لم يأت من قتلة الشهيد خالد حتى الآن ؟ هل يتذكر أحد طَيِّب، هتاف "خالد خالد يا سعيد.. ثورة جاية من جديد" ؟
اعلموا أنَّ دماء الشُهداء لا تَجِف مَهما مَر الوَقت، وأن الشهادة لا تَسقُط بالتَقادُم.            

الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

واحدة بالعسل و واحدة جوز هند

تعرفت على "أحمد" أثناء أجازتي القصيرة التي قضيتها مع البحر والسماء في الصيف الفائت، تحدثنا كثيراً وكنت أحياناً ما أرافقه في المرور على الشاطئ وحمامات السباحة التي يفصل بين كل منها والآخر مسافة كبيرة يمشيها على قدميه حاملاً على كتفه ذلك الصندوق الزجاجي الكبير الذي تسكن فيه الفريسكا بأنواعها كل يوم.
ولأن "أحمد"، ذلك العشريني ذو الملامح المصرية الصعيدية، مصري أصيل.. فهو يعلم جيداً أن "الرزق يحب الخفية"، لذلك كان دائماً ما يُلقي تحية حارة على كل من يقابله، مصحوبة بلقب يقدره هو "دكتور أو بشمهندس". لصداقتنا، أزلنا الألقاب، هو يقول لي "علوة".. وأنا أُناديه "أبو حميد".
تملكني فضول شديد تجاه أسرار مهنته، وهو أفادني كثيراً.. عَلَّمني –مثلاُ- طريقة حمل الصندوق بأقل ألم ممكن على فقرات الرقبة والظهر. عرفت كيفية فتح صندوق الفريسكا على البحر بحيث لا تضرها الرطوبة، يجب أن تولي ظهرك للبحر.. ثم تفتح الصندوق لتأخذ منه ما تُريد وتغلقه سريعاً.. "قبل ما الهواء ياخد باله".
كان "أحمد" يبيت مع عمال آخرين في مسكن متواضع بقرية ساحلية مجاورة، يخرج كُل يوم بصندوقه في السابعة صباحاً على باب تلك القرية، إلى أن تأتي سيارة مصنع الفريسكا التي تمر على القُرى لتوزيع بضاعة اليوم على العُمال، يأخذ منها نصيبه، وهُنا –فقط- يسمح له بأن يأكل واحدة أو اثنتين من الفريسكا الموجودة بسيارة المصنع، وبعد أن يملأ صندوقه الزجاجي.. ينتظر الفرج في سيارة نقل مارة على الطريق السريع يستجيب سائقها لإشارته وينقله إلى القرية التي يبحث فيها عن رزقه، حكي لي أنه ذات مرة لم يعثر على ابن حلال يقله، فمشى الثلاث كيلوات على قدميه، وصل متأخراً فوبخه أحد إداريي القرية وكان مكسبه في هذا اليوم هزيلاً حيث أنه كان قد استنفد طاقته ووقته.. فوبخه المسئول عن جمع إيرادات اليوم هو الآخر.
له من المَكسَب عشرين بالمائة، والفريسكا الواحدة بجنيهين، ربما يرى البعض أن شقاء هذه المهنة لا يتناسب مع فوائدها المادية، لكنه يقول: "آهي حاجة تستر وخلاص".
للأسف.. انتهت أجازتي، وودعت صديقي بعد أن التقطت لنفسي معه صورة تذاكرية على وعد منه بأن نتقابل قريباً في أقرب فرصة، سَجَّلت رقم "أحمد" على هاتفي الخاص، ولم تنقطع صلتنا إلى الآن..
لم يخطر على بالي يوماً أن الفريسكا سوف تكسبني صديقاً، فشُكراً لها.
--
أوحشني !
اتصلت بصديقي "أحمد" اليوم لأطمئن عليه، بعد أن انتهى موسم الصيف، وهجر المصيفون شاليهاتهم الفخيمة، وخلى المكان للشتاء الذي قد حَل بأمطاره ونَوَّاته وصفير رياحه.
أحمد.. الآن يقضي أجازة ليومين مع عائلته في مركز طهطا في سوهاج، سيسافر إلى الإسكندرية بعد ذلك للعمل كـ"عَتَّال" في إحدى شركات المقاولة.. استرجعنا أحادثينا في هذه المكالمة التي استغرقت كثيراً، وعندما تطرقنا للسياسة، أخبرني بأنه لا يعرف ما يجري في البلد ولا يهتم بمعرفته أصلاً، وقبل أن ننهي المكالمة، أوصاني بأن أدعُ له كي ييسر المولى أمور عبده، وأن يتيح له مواصلة آمنة بعد يومين إلى الإسكندرية –حيث العمل الشتوي-..
"عشان بيقولوا البلد فيها لَبَش والأمن غير مستتب".
علي هشام
7 نوفمبر 2013
AliHishaam@gmail.com

نٌشِرَت في "الموجز"


الأربعاء، 23 أكتوبر 2013

عشان احنا واحد

يقولون أن تعداد سكان مصر تخطى التسعين مليون نسمة، لكن رقعة اختلافاتنا الأيدولوجية اتسعت لأكثر من هذا العدد، ولا تتعجب.. ففي أم العجائب تجد أُناساً يحملون فكراً أيودولوجياً وعكسه، أو يتبنون مبدأً ونقيضه، كأن تجد فرداً يزعم أنه مدافع عن الحُريات والحقوق، وفي نفس الوقت يبرر باستماتة قتل واعتقال متظاهرين، بغض النظر عن انتمائهم. وعلى الصعيد الآخر.. تجد أُناساً يَدَّعون أنهم أبناء الفكر "الإسلامي" ويرمون آخرين بالكفر لمجرد أنهم مختلفون، بل ويحرضون عليهم ولا يمانعون من اللجوء للعنف، لكن أهم شيء.. ألَّا ينسوا تلك الابتسامة اللزجة التي ترتسم على وجوههم، وأن يُذَكِّروك بأنهم سمحين وأصحاب صدور متسعة لجميع الآراء المختلفة..
ويحضرني في هذا الموقف، الشيخ -أو الذي أطلقوا عليه شيخاً- الذي استُضيف على شاشة إحدى القنوات الإسلامية -أو التي أطلقوا عليها إسلامية- وسُئل عن جدوى قتل باسم يوسف، فابتسم وأجاب بوجه بشوش: ليس الآن !
لا تنس –عزيزي القارئ- أن تفكر جيداً في هوية من يقف بجانبك في أوتوبيس النقل العام ليزاحمك فيلتصق جسده بجسدك إن كانت المقاعد ممتلئة، فقد يكون ضابطاً مرتدياً الملكي، ربما يقتلك يوماً –عن قصد- إذا تظاهرت. أما إذا كنت موالياً للسلطة، فقد يقتلك –دون قصد- أثر وقوفك في بالكونة بيتك مثلاً أو مرورك في الشارع صدفة، فيضغط الباشا على الزناد قاصداً قتل أحد المعارضين، فتأتيك الرصاصة –غصب عنه والله- لتخترق جسدك معلنة عن وفاتك –ألف بعد الشر-. وحينها تُحَل القضية بتعويض لأسرتك قدره ألفين جنيه وكيسين إندومي. بافتراض أنه شرطي، وبما إنك كده كده ميت.. لا تخش مطلقاً من مزاحمته والاستماتة في توفير مكان مريح لك في النقل العام، بل والدعس على قدمه إن أحببت، هيحصل لك إيه اكتر من الموت يعني ؟
أما إن كان مدنياً بحق، فانس ما قلته بخصوص أنه سوف يقتلك بمسدس ميري، حاشا لله، فالأُستاذ ربما يقتلك بمسدس ملكي أو فرد خرطوش محلي الصنع ! أما عن انتمائه فتلك أمور هامشية، قد يكون مدنياً من الواقفين مع الشرطة –هذا المنظر الذي صار مألوفاً بالنسبة لنا منذ زمن-، أو يضربك من صفوف المتظاهرين، وفي هذه الحالة لا نعرف إن كان فعلاً من المتظاهرين أم إنه كائن غريب قد هبط من مكوك فضائي على أرض الحدث.
ربما يكون إنساناً ذو قلب ضعيف لا يقوى على المشاركة في الأحداث الدموية، وفي هذه الحالة سوف يتربع على كنبة بيتهم أمام التليفزيون، إما سيصفق لمقتلك إذا كان موالياً للسُلطة وقال الإعلام إنك من "الإرهابيين الوحشين"، أو سيمصمص شفتيه قائلاً:"يا حرام قتلوه الإرهابيين"، إذا قال الإعلام أنك من الأهالي الأبرياء الذي كانوا يتصدون للهجوم الإرهابي الغاشم.
اعلم أن القتل ليس ببعيد عن أحد منا، سواء تظاهرت أو لم تتظاهر، واعلم أن أُناساً سوف يسيرون فوق دمائك بأقدامهم، وآخرين سوف يتاجرون بدمائك ثم يبيعونها بعد ذلك بأرخص ثمن، وهناك من سيصفق لمقتلك، وثمة من سيزايد عليك، فالمزايدة صارت تجري في دماء الناس، حتى إنك إن قابلت أحدهم وقلت له: "وحشتني".. سيكون رده: "لا انت أكتر" !!
ويكتمل المشهد من الناحية العبثية.. بأن يأتيني وأنا جالس على مكتبي أكتب هذا المقال، صوت منبعث من التليفزيون لأُغنية مشجعة للمنتخب الوطني للتأهل لكأس العالم "عشان احنا واحد.. وهدفنا واحد" !
علي هشام





الثلاثاء، 15 أكتوبر 2013

الأمل في أن تطير الزرافة


لا ألوم على من عاد للهوس بكُرة القدم، ولا على من اختزل جميع أحلامه في أن يتأهل منتخبنا القومي لكأس العالم، مع إنه يعلم جيداً إننا لن نكسبه. لكن لا تتعجب، فإننا نحب خوض المعارك التي نخسرها من قبل أن تبدأ أصلاً.
ساعات تفصلنا على بداية مباراة منتخبنا القومي المصري مع نظيره الغاني، تجد أعلاماً مصرية خالصة مُعلقة على أبواب القهاوي، خليط من الحماس والتأهب يسيطر على الأجواء في مصر. أغلب الناس قد جردوا المباراة من كونها مجرد "ماتش كورة"، فتجد العديد من البشر حولوا الموضوع إلى قضية قومية.. مصير دولة.. مصر تنتصر.. ارجع شجع.. هيلا هوبا !
إذا تأهلنا لكأس العالم لن يتغير من وضعنا شيئاً، لن يرتفع سعر الجنيه المصري، لن يتحسن دخل المواطن –بغض النظر عن الفرحة التي ستنتابه عندما يرى محمد النني يلعب مع ميسي في نفس البطولة-. كذلك إذا تأهلنا لن تحدث أمور خارقة للطبيعة، فمثلاً لن تطير الزرافة، ولن يتحدث عدلي منصور في السياسة، ولن يكف السيسي عن كتابة رسائل غرامية للشعب.
يُحكى أنه في أحد الحوارات الوهمية التي دارت مع الرئيس البرازيلي "لولا دا سيلفا"، سُئل عن السر وراء نهضته بالبلد، فأجاب: "الحمد لله ربونا وفقنا عشان الجامهور الكبير دهون خدنا التلاتة بونت.. مشينا ورا تعليمات الخواجة ولعبنا أربعة أربعة اتنين" ! 
وبما أن المصريين يحاولون إخبار العالم بأن الكُرة هي ترمومتر التقدم، ولا دولة تقدمت سوى بالكُرة. يُذكر أنه عندما سُئل الرئيس "ميخائيل جورباتشوف" عن سر انهيار دولته –الاتحاد السوفيتي-، أجاب: "معلش أصل معندناش باك ليفت " ! 
لكن أعتقد أن هناك استثناءات لتلك القاعدة، لماذا لم تنهض ليبيريا رغم أن خط هجومها كان يتصدره اللاعب "جورج وايا – أفضل لاعب كرة قدم في العالم عن سنة 1995" ؟ ربما لذلك اتجه وايا لممارسة السياسة بعد اعتزاله الكُرة.
وبمناسبة أن الكُرة تتحكم في كل شيء، لماذا لم نرَ محمد مُرسي يقول بعد عزله: "ألف مبروك للفرقة الكسبانة، وهارد لاك لفرقتنا" ؟!
في مصر لا تجد فقط اليائسين يريدون اقناعك بأن الكُرة هي المصدر الوحيد للفرحة والتقدم، السُلطة أيضاً تُريد اقناعك بذلك، هل تتذكر عندما دهست مدرعات الجيش المتظاهرين أمام ماسبيرو، فبرر السادة المسئولين ذلك بأنها "نرفزة ملعب" ؟ 
إليك عزيزي الذي قرر أن يتفرغ لكُرة القدم:

أعلم جيداً أنك لجأت لهذا الحَل بعد أن يئست من وجود أية مصادر أُخرى للفرحة في مستنقع الخراء الذي نعيش فيه.. لكن أرجوك، لا تنكس الأعلام بعد انتهاء المباراة... على الأقل.
علي هشام

15 أكتوبر 2013